لافروف.. مجدداً

يُعيّر وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف الفرنسيين بأن من يقاتلونهم اليوم في مالي هم ذاتهم الذين سلّحوهم وحاربوا معهم في ليبيا!
بعض الناس، كان يتهم الديبلوماسية الروسية بقصر النظر والمراهقة وقلّة الاحتراف. وكان الاتهام تعبيراً (وتنفيساً) عن غيظ مكين تحكّم بذلك البعض نتيجة موقف موسكو من نكبة شعب سوريا ودعمها الأرعن لسلطة الأسد… لكن الغيظ الآن يُخلي مكانه وينزوي إلى الخلف أمام الأحكام الباردة والناشفة التي توصل في ختامها إلى النتيجة ذاتها.
ينسى لافروف موسكو، ان غزو بلاده لأفغانستان كان الرمية العمياء الأولى في مياه الحركات والتنظيمات الأصولية، والإرهابية، فحرّكها وهيّجها وأوصلها إلى السماء! وإن هلع الامبراطورية الاشتراكية العظمى من وصول طراطيش وتأثيرات الثورة الإيرانية إلى جمهورياتها الآسيوية، حتى قبل أن تُحكِم المؤسسة الأمنية إمساكها بالثورة ومن بعدها بالسلطة في إيران… إن ذلك الهلع أطلق سلسلة من القرارات الخاطئة ففعلت هذه فعلها "الحتمي" و"التاريخي" مباشرة، وأوصلت في محصّلتها، ليس فقط إلى شيوع وانتصار ذلك النمط التكفيري الأفغاني، وإنما إلى تسجيل لحظة في التاريخ لا تنسى: كسر جيش الاتحاد السوفياتي هناك، كان الإعلان الأول عن انكسار المعسكر الاشتراكي وبدء تشرذمه وتفككه وبالتالي بدء عودة أمور الدنيا إلى سياقها الطبيعي في الجغرافيا والسياسة والفكر والاقتصاد والدين والقوميات… إلخ.
ينسى الوزير الروسي قبل ذلك، ان دخول قوات بلاده إلى أفغانستان، عنى خروج أفغانستان إلى نصف الكرة الأرضية! وأن هزيمة تلك القوات هناك بعد عشر سنوات من القتال، كانت تدشيناً مجلجلاً لصعود "الطرف الآخر"، في أنماط قتالية عدمية ومدمّرة مرّت على نيويورك ووصلت إلى الشيشان!
يتذاكى في شكل الكلام، رئيس الديبلوماسية الروسية، ولا ينتبه إلى المضمون. ويتصرف كأنه في مسابقة إنشائية أو لغوية، وليس كمسؤول في دولة ورثت امبراطورية مترامية، وتسعى جاهدة إلى إعادة إحياء "أمجاد" ذلك الماضي!
… يتحدث إلى الفرنسيين ويذمّهم لأنهم ساهموا في إسقاط القذافي… هذه المعجزة العبثية المريضة والفتّاكة والأغرب من أغرب غرائب الدنيا! ولا ينتبه، إلى أن الشعب الليبي هو الذي أنهى ذلك الكابوس قبل غيره، وأنه كان للفرنسيين وغيرهم، مجد مساعدتهم على تحقيق تلك النهاية. وانه لولا ذلك، لكانت "مآثر" ستالين، نكتة سوداء، أمام مآثر القذافي، ولكانت نكبة ليبيا وشعبها مواكبة لنكبة سوريا وأهلها وعمرانها ودورها!
ينسى أو يتناسى لافروف موسكو، أن الريح التي زرعها أسلافه في أفغانستان هي التي أدت إلى حصاد عاصفة الإرهاب الأرعن في عالم اليوم! وأنه لولا ذلك، لربما أخبرنا التاريخ رواية أخرى… ولربما، لسخرية القدر، انتظرت شعوب "المعسكر الاشتراكي العظيم" عقوداً أخرى قبل أن تبدأ تحررها من نظم سياسية فكرية أرهقت البشرية وأذلّت كرامة الإنسان في أبسط مراتبها ومتطلباتها!
لو يكتفي بالسهر على رعاية جهود "إعادة الاعتبار" إلى ستالين المنطلقة هذه الأيام في بلاده… فذلك جهد طبيعي لشخص مثله. يندب سقوط عجيبة مثل القذافي. و"يقاتل" مستميتاً دفاعاً عن سلطة مثل السلطة السورية! أما حديث الإرهاب والجماعات الأصولية، فليتركه لمن هم أعلم وأعرف منه بكيفية محاربتها، لانهم الأعرف والأعلم بالأنسنة وشروط الحياة وطبائع الاجتماع المديني، في أصلها وفصلها!
تسلّى بستالين، واترك ليبيا لشعبها وسوريا لقدرها. وأخجل قليلاً… ثم… لو سمحت!

السابق
رجل بكل معنى الكلمة
التالي
اللحوم الحمراء عدو الأمعاء