عن غزوات عون للشارع المسيحي..!

يعتبر كثير من اللبنانيين أن الاصطفاف السياسي الحاصل بين جبهتي 8 و14 آذار، هو علة حالة عدم الاستقرار السياسي والأمني، التي أدّت إلى تكبيل السلطة، و«كربجت» الحياة السياسية، وعطّلت فعالية الحكومات المتعاقبة منذ انتخابات عام 2005!
صحيح أن هذا الانقسام العامودي ليس طائفياً، لأن كل جبهة تضم خليطاً من الطوائف الإسلامية والمسيحية، ولكن مفاعيله السلبية على التركيبة الوطنية، لا تقل خطورة عن الانقسامات التي سادت عشية الحرب، وانفجرت في نيسان 1975.
ويكفي أن نستعرض ردود الفعل على الأحداث الأخيرة، وما يقابلها من ردود مضادة، حتى ندرك مدى خطورة استمرار هذا الواقع المفجع، على النظام السياسي، كما على الجبهة الداخلية، وتماسك صيغة العيش المشترك بين اللبنانيين.
لقد كشفت حادثة عرسال، مثلاً، حجم مشاعر الحقد والضغينة التي يكنّها التيار العوني ضد تيّار المستقبل، تلك المشاعر التي تحوّلت إلى حملات تحريض مكشوفة ليس ضد «المستقبل» وحده، ولا ضد أهالي عرسال وحسب، بل ضد الطائفة السنية، بأكملها، قيادات وفاعليات وبلديات، بحجة أن هذه الطائفة معادية للجيش الوطني - كذا - وأبناؤها هم من أتباع بن لادن، وفروع القاعدة..! وبالتالي لا بدّ من عزل الطائفة الأكبر في البلد، وتلقين أهلها دروساً تأديبية، في حملات عسكرية، واغتيالات سياسية وأمنية، علهم يرتدعون، ويستسلمون للتيار العوني وحلفائه في معسكر 8 آذار!
وذهب العونيون أبعد من ذلك، في تحريضهم السافر والمقزز، والذي يصل إلى مستوى «الخيانة الوطنية»، من خلال استعادة مشاهد ذلك النهار الأسود في التظاهرة «الملغومة» ضد السفارة الدانماركية في الأشرفية، والتي اندسّت في صفوفها عناصر مُخرّبة، تنتمي إلى أحد فروع المخابرات السورية، كما كشفت التحقيقات الرسمية لاحقاً، وراحت تعتدي على الكنائس والممتلكات الخاصة، وتنشر الرعب والخراب في الشوارع المحيطة بالسفارة الدانماركية.
ولا ندري إذا كان الحديث عن «غزوة الأشرفية» يكفي لينسى أهل بيروت من الأشرفية إلى كرم الزيتون والرميل والجعيتاوي، إلى البسطة وكورنيش المزرعة، والطريق الجديدة ورأس بيروت، وصولاً إلى جل البحر، تلك الحروب الضروس التي شنّها العماد عون على الأحياء المدنية، مسلحاً بمدفعية الميدان الثقيلة، تارة باسم «حرب التحرير» ضد الجيش السوري، وطوراً من أجل «حرب الإلغاء» ضد «القوات اللبنانية» والأحزاب المسيحية الأخرى، التي عارضت انتخابه رئيساً للجمهورية، واعترضت على احتلاله قصر بعبدا، بعدما أطلق عليه تسمية «قصر الشعب»!!
* * *
والحملة العونية على تيّار المستقبل، والطائفة السنية، في مشروع اللقاء الأرثوذكسي الانتخابي، لم تقل ضراوة عن مخطط التحريض الخبيث في حادثة عرسال، واستعادة تظاهرة الأشرفية!
حاول التيار العوني استغلال تأخر تيّار المستقبل في طرح المبادرة التي أعلنها الرئيس سعد الحريري، وراح يتلاعب بالأوتار الطائفية، ويضخّم الحساسيات المسيحية المعروفة، متناسياً أن رئيسه العماد عون شخصياً كان من أشد المتحمسين لقانون الستين الانتخابي في مؤتمر الدوحة، وعاد إلى بيروت رافعاً إشارة النصر، بكل زهو وافتخار، بعدما سبقته اليافطات في الشوارع «بأننا استعدنا حقوق المسيحيين»!
ولكن الدرس كان قاسياً لعون وحلفائه في 8 آذار، عندما خسروا الانتخابات عام 2009، أمام فريق 14 آذار الذي فاز بالأكثرية، فكان لا بدّ من بحث عن قانون انتخابي جديد يضرب وحدة 14 آذار، ويضمن الأكثرية لقوى 8 آذار، فكان مشروع الفرزلي الأرثوذكسي بمثابة كتلة النار التي رماها العونيون وحلفاؤهم إلى أحضان قوى 14 آذار!
كادت المزايدات الانتخابية أن تؤدي مفعولها في تفريق حلفاء السيادة والاستقلال، لولا استدراك بعض القيادات، في الوقت المناسب، بأن الذي يجمع قوى ثورة الربيع اللبناني، من مبادئ وتفاهمات ومواقف، يبقى أقوى من الاختلاف على قانون انتخابي ملتبس بصيغته وأهدافه، ومدمر للدولة والكيان، خاصة وأن تلك التفاهمات قد تعمّدت بدماء الشهداء من النخب السياسية والإعلامية والفكرية، الذين لم تفرّق يد الغدر بين المسلم والمسيحي منهم، ولا بين أتباع هذا المذهب أو تلك العقيدة!.
«غزوات» عون المتكررة للشارع المسيحي لم تحقق أهدافها بالأمس في حربي التحرير والإلغاء، ولم تحقق اختراقاً في المشروع الأرثوذكسي الذي ذهب أدراج السجالات المستنكرة.. وهي قطعاً لن تنجح في حادثتي عرسال والأشرفية، طالما بقي الوعي المواطني، لدى المسيحيين والمسلمين، هو السلاح الأقوى في وجه الإرهاب الفكري، والتحريض الأعمى ضد الشركاء الأساسيين في الوطن.. وفي المصير!

السابق
رجال الدولة
التالي
هبة من الكتيبة الإيطالية إلى الدفاع المدني في صور