غارات لتغيير قواعد الاشتباك

تتواصل التسريبات «الإسرائيلية» حول الغارة التي نفذها الطيران الحربي «الإسرائيلي» على أهداف في سورية، فكان الواضح منها ما قاله الجيش السوري في بيانه، بأنها استهدفت مركزاً للأبحاث العلمية في منطقة جمرايا قرب دمشق، فيما لم تعلن «إسرائيل» رسمياً عن قيامها بتلك الغارة، جرياً على عادتها في المهمّات المماثلة التي تبقى مفتوحة وقائمة طالما لم تنته من جهة، وبانتظار ردات الفعل من جهة أخرى.
لكن التسريبات التي يتولاها عادة، بالإضافة الى الصحافة «الإسرائيلية»، مسؤولون سابقون في الجيش «الإسرائيلي» أو الاستخبارات، هي بمثابة الإعلان الرسمي عن المهمّات التي لها طابع «سريّ»، وفي الحالة الأخيرة برزت أقوال المستشار السابق للأمن القومي «الإسرائيلي»، المحال على التقاعد الميجور جنرال غيورا إيلاند، التي نقلتها صحيفة «تايمز أوف إسرائيل»، والتي اتخذت شكل الإعلان أو التسريب أو الإعتراف، بالإعتداء الإسرائيلي الأخير على سورية الأربعاء الماضي، معتبراً أنه «تم لأسباب وجيهة» وأنه «كان قراراً صحيحاً رغم المخاطر».
زعم «غيورا» الذي كان يتحدث أمام الحكومة الإسرائيلية، بحسب الصحيفة نفسها، أن «إسرائيل» ترغب في منع حزب الله من الحصول على صواريخ بعيدة المدى وذات قوة تفجيرية أكبر، أو على صواريخ للدفاع الجوي أحدث صنعاً، أو على أسلحة كيماوية من سورية. إلا أن هذه الإستراتيجية التي يعمل على تنفيذها الإسرائيليون منذ زمن بعيد وفعّلوها بعد الدرس الذي تلقوه بعد عدوان العام 2006، لم تنجح ولا مرة واحدة في قطع طرق إمداد المقاومة في لبنان بالسلاح من كافة العيارات، لا سيما الصواريخ التي تخشاها إسرائيل أكثر من أي نوع آخر، في حين أن كل عمليات التجسس لم تنجح أيضاً بكشف نقل أية شحنة منها، خاصة بعدما استطاعت الأجهزة المعنية من اسقاط العديد من شبكات التجسس ما خرّب كل الخطط التي وضعتها إسرائيل في هذا المجال.
وفي حين أن أهداف الغارات الجوية التي تتحدّث عنها «إسرائيل» تعتبر صحيحة من وجهة نظرها، إلا أن الأهداف غير المعلنة لتلك الغارات، تستهدف في العمق تغيير قواعد الإشتباك على الأرض في سورية بعد بروز علامات الهزيمة في آداء الجماعات المسلّحة هناك، وهو لا يتناسب مع ما تريد «الدولة العبرية» والولايات المتحدة الأميركية تحقيقه من نتائج للحرب الدائرة في ذلك البلد، وأقلها تدمير قوته الإستراتيجية في الصراع معها» والتي بدأت تهدّد وجودها بعد سيطرتها على المنطقة طيلة أكثر من خمسين عاماً، بفعل التفوّق الإستراتيجي الذي تمتّعت به بدعم دوليّ مطلق وتآمر عربي تكسّر على أعتاب المقاومة في لبنان وصمود سورية ودورها فيها.
قرأ «الإسرائيليون» بدقة الوضع القائم في سورية، وقرّروا وفق خطة وُضعت بنودها سلفاً للدخول على خط الأزمة القائمة في هذا البلد، بعدما تأكدوا أن مسار الحوادث قد تغيّر من «إيجابي» الى «سلبي»، بحسب رأيهم، من خلال عدة خطوات أقدم عليها الرئيس السوري بشار الأسد لا سيما إطلالتيه في خطابه الأخير، والصلاة في المسجد لمناسبة عيد المولد النبوي، في دمشق.
عرف «الإسرائيليون» من خلال ذلك وغيره، أن ما كان منتظراً من الأزمة السورية وأملوا في تحقيقه على مدى عامين تقريباً، قد انحرف عن مساره، فكل التقارير التي كانت ترد إليهم أكدت أن أسباب تراجع العنف في سورية تعود الى الوهن الذي أصاب الجماعات المسلّحة بعد سيطرة الجيش السوري على مجمل مناطق التوتر، وهو ما أكده ظهور الرئيس الأسد في المناسبتين المذكورتين، ما اضطرهم الى التحرّك بهدف إرباك الوضع، علّه يساعد تلك الجماعات على أخذ جرعة «منشطات» تعيدهم الى ساحة القتال، التي فروا منها الى خارج سورية، فشنّت الطائرات الحربية «الإسرائيلية» غارتها على «مركز الأبحاث العلمية السورية» من دون أن تتجرّأ سلطات «الدولة العبرية» حتى الساعة على إعلان ذلك، بل ما زالت تفرض التعتيم الكامل الذي بدأته على تفاصيل العملية، لأن ما بعد الإعلان سيكون حكماً غير ما قبله، وذلك بمعايير الصراع القائم بينها وبين دول الممانعة التي تشكّل سورية رأس الحربة فيها، فـ»إسرائيل» تنتظر ردّ الفعل على هذا العمل الذي كشفته الصحافة أو ربما سرّب اليها، وجهّزت نفسها لتلقي الردّ، غير أنه لم يأت حتى الآن واكتفت سورية وحلفاؤها ببيانات الإستنكار والتهديد والوعيد.
وفي هذا السياق، تقول مصادر معنية مطّلعة، إن الردّ بات حتمياً، بعدما بات حجم الإعتداءات «الإسرائيلية» كبيراً ومتراكماً، ولكن كما في كل مرة فإنه لن يسمح لـ»الإسرائيليين» فرض التوقيت الذي يناسبهم، مشيرين الى ان هذا الكلام، الذي قد يكون الناس اعتادوا عليه، وربما ملّوه، ليس من قبيل ذر الرماد في العيون وإنما هو حقيقة. في حين لا يمكن القول أو البوح بأكثر من ذلك في الوقت الراهن. لكن المؤكد بحسب المصادر نفسها، هو أن الإستعداد في أعلى درجاته والإجراءات قد اتّخذت للرد بما يناسب الموقف من جهة، والظروف القائمة وتعقيداتها من جهة أخرى.
وتلفت المصادر الى أن خطة «إسرائيل» المكشوفة لناحية التلطّي خلف حساسية الحوادث القائمة في المنطقة وسورية تحديدا،ً كما أن شن الغارات وتنفيذ العمليات العسكرية بـ»التقسيط المريح» لن يجنّبها الرد المؤذي بالرغم من كل الإجراءات التي تتخذها للحؤول دون تلقيها ذلك، وهناك شواهد على هذا الأمر تعلمها «الدولة العبرية» جيداً، فيما يتساءل، ربما الكثير من الناس، عن الأهداف الإسرائيلية من وراء هذا النوع من الغارات التي لن تغيّر من مجريات الصراع معها، ولن توقف عمليات نقل السلاح إذا كانت موجودة، كما لا يمكنها أن تقضي على المخزون الإستراتيجي من السلاح في سورية، وقد لا تحقق بدورها، من خلال حرب شاملة، تلك الأهداف أيضاً، وذلك بعد تجارب عدّة كان آخرها ما حصل في لبنان عام 2006، ناهيك عن أن أية حرب لم تعد محصورة بفريق دون الآخر. ليأتي الجواب أن الغارات الأخيرة تهدف الى تغيير «قواعد اشتباك» لم تعد تجري لمصلحة «إسرائيل».

السابق
ديكتاتورية التوافق
التالي
النهار: قائد الجيش: لا مساومة سياسية على شهيدينا