عرسال ضدّ الجيش؟ فلنسأل عن السبب

السلوك الذي ينتجه الاستبداد في الرأي والتعبير هو واحد، لأنه غالبا ما يعتمد المنهجية نفسها التي تحقق النتائج المتطابقة، تلك التي تتيح للفئة المستبدة (فردا او جماعة) ان تبقى على عرش السلطة متحكمة بمصائر البلاد والعباد أو الطوائف والمذاهب وصولا الى الاحياء والأزقة والبيت. ولعل أسوأ أنواع الاستبداد والديكتاتورية الفردية هو ذلك الذي يعتمد "الإيديولوجيا التي تتكلم بلغة روحانية"، كما قال المفكر الراحل محمد أركون. والاستبداد الأسوأ هو ذلك الذي يتأتى من السلطة الدينية، اي تلك التي تعطي لنفسها حق الزعامة والقيادة مرتكزة على اعتقاد (زائف) لديها بأنها تمثل خلافة الله وتنفيذ اوامره على البشر، وهي بالتالي لا تولي معارضيها اي اعتبار حقوقي او انساني، لانهم هم الضالون واعداء الدين او المذهب او الطائفة، وهم اعداء الله والاعتداء عليهم وسلب حقوقهم، بنظر السلطة الدينية، هو امر "عادل بل هو العدل الالهي بعينه"، كما وصف ناقدا، ومتهكما على هذا السلوك، المفكر علي شريعتي.
هذه السلطة تقوم على تحالف طبقة الحكام والطبقة الاقتصادية وطبقة رجال الدين. سلطة مثلثة تتبدل وجوهُها، ولا تتبدل وظائفُها ومصالحها. وهي ماثلة في لبنان عبر صور القوة والمال والطائفة بامتداداتها الخارجية. واولى نتائج تكوّن هذه السلطة الاستبدادية تراجع حيوية المعارضة أوالنقد السياسي والاجتماعي في مقابل افتعال الاحتراب المذهبي والطائفي الذي يزيد من سطوة السلطة واستبدادها داخل كل طائفة. ويتحول الدين- الطائفة ، بعامل الخوف والجهل والمُلكية والتمييز، إلى دين تبريري تخديري، إلى "دين أفيوني"، حسب عبارة شريعتي المستلة من خلاصات ماركس. وكلما ارتفع مقام هذه السلطة واستقر في الظاهر، تحولت المشاعر الدينية والطائفية الى لعبة في يدها ولدى حاشيتها.
فلا ريب في ان الفساد ظاهرة موجودة ولا يمكن القضاء عليها تماما في اي مجتمع او دولة او جماعة. لكنّ مكافحتها والحدّ من امتدادها وحصارها هو معيار تقدم الدول والشعوب وسبيل ارتقائهما في السلم الحضاري. لذا ليس عبثا ان يتلازم الاستبداد مع الفساد. اذ كلما استبدت السلطة شاع الفساد وانتعش الاستبداد وترسخ في الوعي وعلى ارض الواقع في حلقة مفرغة. وكلما كان الدين او الطائفة وسيلة متاحة لاستغلالهما من قبل السلطة المستبدة أمكن تهميش القانون والمحاسبة والمساواة بين المواطنين.
بترسيخ هذه السلطة اجتماعيا باسم الدين والطائفة وباسم المقاومة والممانعة، او باسم انتهاك الطائفة او الدين، يمكن لهذه السلطة ان تبرر لأتباعها قتل عشرات الآلاف من المدنيين، في سورية على سبيل المثال، من دون ان يهتز الوجدان او يتردد. واستغلال المشاعر الدينية والطائفية لسلطة الاستبداد المذهبي والطائفي في لبنان يتيح اعادة تعريف مشوّه للحقوق والواجبات. تعريف يذهب الى تنزيه السلطة هذه عن الخطأ والخطيئة السياسية او الاجتماعية، للانتقال الى مرحلة قمع وشيطنة كل صوت نقدي يمس هذه السلطة او سلوكها. هذا لادراكها ان الغاء مساحة النقد والحوار هو امضى سلاح للذود عن سلطانها، ومن شروط استقرار نفوذها، الى جانب الفساد، شرط ضرب منظومة القيم الاخلاقية والحد من استخدام المواطنين العقل والتفكير النقدي اجتماعيا، باعتبار ان هذه الوسائل تودي بأصحابها الى التهلكة.
في مشهد عرسال الدموي الاخير محاولة لاستحضار كل هذا السلوك العبثي المدمر للدولة. الإستبداد، على ما يبدو، يصنع من ضحاياه صورا عنه. "جبهة النصرة" ومجازرها مثال على ذلك. بعض فصائل الثورة السورية المذهبية مثال على كيفية تحوّل بعض الثوّار إلى متطرّفين يريدون أن يشربوا من دماء الذين شربوا من دماء أهلهم. وفي عرسال يتشابه المشهد مع المثال السوري. أهل البلدة الذين يشعرون بوطأة الإستبداد الحزبي والسلطوي إنقلبوا على الجيش وهيبته كتعبير عن رغبتهم في وقف مسار طويل من الإحباط غير المعلن.
في المقابل لا يجد الجيش متنفّسا للتعبيرعن قوّته وهيبته الا في المناطق التي تشعر بسلطة"الإستبداد". من قتل الشيخ عبد الواحد إلى قتل المطلوب في عرسال ينظر أهالي عرسال وأخواتها إلى الجيش نظرة المظلوم إلى الظالم. ويرون أنّ الجيش الذي يقتل بعضهم لا يجرؤ على دخول مناطق أخرى. وهذا ليس تفصيلا ولا يجوز السكوت عنه تحت شعار "المصاب جلل وليس وقت المقارنة". المقارنة هذه هي التي قتلت جنود الجيش والسكوت عنها هو الذي سيقتل المزيد من أهالي عرسال وأخواتها ومن أبناء الجيش الوطنيّ.

السابق
خريطة طريق لإخراج لبنان من النفق
التالي
لحظة الدفاع عن الكيانية اللبنانية