جريمة في بيروت… 

لم يكن ينقصنا إلا الطبيعة لتقول لنا هي أيضاً إن النظام الذي نعيش في ظله في لبنان لم يعد قابلاً للحياة، لا بل أصبح قاتلاً أيضاً. فشهداء العاصفة الثلجية الستة، أو الأكثر ربما مع كتابة هذه السطور، لم يكونوا ضحايا غضب الطبيعة أو ثورة السماء على الأرض أو سواها من أدبياتنا الممجوجة في لحظات انكشاف عجزنا والقصور. هؤلاء كانوا بالأصح والأدق شهداء رفضنا لقوانين الطبيعة ومخالفتنا لمنطقها في التشكل البشري وفي المواءمة مع منطق الأرض وطبيعة الجغرافيا.
في تقرير دولي صادر قبل أسابيع عن إحدى المنظمات الدولية حول توزّع سكان الأرض، جاء أن نصف سكان كوكبنا يعيشون في نطاق شريط عرضه خمسون كيلومتراً، مجاور لمياه البحار والمحيطات، التي تمثل بدورها سبعين في المئة من مساحة كوكبنا. وفي هذا المعطى الجغرافي ــــ البشري قاعدة من قواعد الطبيعة، بعد مئات السنين من تطور البشر ومن تجمعهم وتوزعهم وفق أسطورة الهياشم في برد الشتاء. تلك الحيوانات القنفذية، التي إذا ما عصف بها الصقيع تلاصقت ليدفئ بعضها بعضاً. لكنّ تلاصقها العشوائي لا يلبث أن يخز إبرها في أجساد بعضها. فتتباعد ألماً، حتى يضرب البرد جلودها وجراحها مضاعفاً. فتروح في حركة انعكاسية تلقائية، تتقارب وتتنافر، حتى تجد تلك المسافة المثلى في ما بينها، بحيث تدفأ ولا تدمى. مثلها البشر، عبر قرون تشكلهم المجتمعي، من عصور الزراعة وحاجة الري، إلى زمن النقل والتجمع عند الممرات المائية الكبرى، وصولاً إلى أزمنة الحملات العسكرية وفتوحات الغزو والاكتشافات عبر البحار… قبل أن تنكأ ندرة موارد الطبيعة كثافتهم عند الشواطئ، فدفعتهم جراح القلة إلى رحلات «الغرب البعيد». هكذا بعد ألفيّتين ونيف، رآهم ذلك التقرير الأممي وفق خارطة أن يكون نصفهم ضمن نطاق خمسين كيلومتراً من مرمى الموج، ونصفهم الآخر في الدواخل، يتوازنون بين صقيعهم وجراحهم، ليعيشوا، ولتكن لهم حياة أفضل.
غير أن أحداً من الخبراء لم يكن يتوقع نظاماً مثل لبنان. أن يحشر سبعون في المئة من السكان، والبعض يقول أكثر، في نطاق ساحلي لا يزيد عرضه على خمسة كيلومترات، والبعض يقول أقل. فيما طول الشريط المذكور لا يتجاوز الخط الممتد من صيدا إلى طرابلس. هكذا، وفي غضون عقود قليلة من حروبنا الأهلية، وبمعزل عن أي أسباب لها أو حلول، زرعنا في نظامنا البنيوي بذور حربنا على الطبيعة وحربها علينا. أكثر من ثلاثة ملايين نسمة في هذا الشريط، مع فوارق في الكثافة مذهلة أحياناً، ضمنه، وأكثر خارجه. من يعرف كم إنساناً يقيم في «ضاحية» الكيلومترات المربعة الخمسة؟ من يعرف كيف يعيش الناس في الكرنتينا؟ فيما في صندوق بلدية بيروت الممتازة حوالى 600 مليون دولار أميركي مجمّدة، تماماً كما تجمّد مفتاح تلك البلدية والمدينة في قبر غازي كنعان، وتماماً كما تجمّدت جثث العابرين في نهر الغدير أمس، من دون انتظار جنبلاطي ولا ثأر ولا عدو. تصوروا المشهد على قياس باريس مثلاً، حيث الرقم مضاعف بأكثر من 80 ضعفاً، قياساً إلى مقارنة ناتج البلدين، تصوّروا في صندوق بلدية باريس حوالى 50 مليار دولار مجمّدة، فيما يموت طفل غرقاً على بعد أمتار منها!
طبعاً ليست تلك مسؤولية بلدية، إنها مسؤولية بلد. إنها تحديداً جريمة نظام كامل، أقنع نفسه، فأقنع ناسه لاحقاً، بأنه يُختزل ببقعة اسمها العاصمة. نظام ليس مركزياً وحسب، بل استئثاري احتكاري حصري قطعي إقطاعي. نظام عاش ثمانين عاماً على قاعدة أن من يحكم بيروت يحكم لبنان، وأن من يعيش خارج بيروت تضعه عواصف سياسة العاصمة خارج الوطن، قبل أن تجعله عواصف طبيعة البلد خارج الحياة. نظام عقيم متكلس في معتقداته البالية، من صورة سوليدير إلى اضطرار رفيق الحريري، ربما، إلى نقل قيده من صيدا إلى بيروت، ليصير مستحقاً زعامة البلد أو شهادة النظام.
هكذا على مدى ثمانين عاماً، حشرنا بشرنا في طواحين ساحة ساحلية ريَّفناها وهدمناها وشوّهناها ودفنّاها بأجسادنا. وتركنا وطناً كاملاً في المناطق بلا حياة ولا مقومات حياة ولا دولة ولا حتى رمز دولة. هجَّرنا ثلاثة أرباع شعبنا إلى شريط بعرض أقل من خمسة كيلومترات، حيث لا معجزة بشرية أو فوق بشرية قادرة على تأمين البنية التحتية اللازمة لحماية حياة رضيع من فيضان ساقية، وهجرنا تسعين في المئة من مساحة أرضنا، جاعلينها قصداً، بلا جامعة ولا مستشفى ولا طريق ولا حتى رغيف خبز. هكذا رحنا نموت بجراح اكتظاظنا كالهياشم في بيروت وضواحيها، وصرنا نموت من صقيع خوائنا في كل مساحة الوطن.
أمس كان ينقصنا العاصفة لتقول لنا هي أيضاً: الحياة مستحيلة في نظام «العاصمة ــــ الأمة». أعيدوا توازنكم على مساحة الوطن، ونموّكم الشامل فوقها وتنميتكم المتوازنة لها. حتى الطبيعة أنذرتنا أمس: اقتلوا هذا النظام، قبل أن يقتلكم.

السابق
الثلوج تغطي قرى بنت جبيل والعمل جار على فتح الطرق
التالي
محمد سليمان مشارك باغتيال مغنية