شيعيون بين القطيع والانشقاق


قبل أيام التقيت صديقاً من أهل المسؤولية والرأي والكلمة بناء على رغبته، وفي ذهني موضوع محدد، وأنا أعرف عني، أني بطيء في تعاملي مع المفاجآت، وأكثر الأحيان، أعود الى التفكير في المفاجأة والرد عليها، خاصة إذا كانت مزعجة، ولكن بعد فوات الأوان.
فاجأني الصديق بقوله: ولكن تحرككم ومشروعكم بعد البيانات التي أصدرتموها حول الربيع العربي وأحداث سورية والموقف الإيراني والشيعي السياسي اللبناني، كان – المشروع – متواضعاً.. وهو يريد أن يقول: فاشلاً كما يصارحني البعض أو يقولونها من بعيد.. وبناء على ذلك يهمني أن أوضّح، أننا.. أنا ومن يفكر ويعمل مثلي من رجال الدين والمدنيين الشيعة المختلفين، متفقون على ترجيح الشعوب حتى لو أخطأت على الحكام المستبدين وإن اصابوا أو انتصروا، وفاء لتراث متراكم من دون انقطاع تاريخي في تقديم العام (الناس، الشعب أو الأمة) على الخاص (الطائفة أو المذهب) من يوم أعلنها علي بن أبي طالب «لأسلمن ما سلمت أمور المسلمين ولم يكن فيها جور إلا علي خاصة».
وبناء على هذا أعلنا مواقفنا مبكراً ثم اصدرنا بياناتنا في لحظة لم تعد تتحمل المداورة أو الكناية أو المبالغة في التأدب ومراعاة خواطر الذين لا يراعون خاطر أحد لأنهم مفتولو العضلات.. واحتياطاً من الظن بنا اننا منشقون وعلى أهبة تكوين تيار انشقاقي.. اتفقنا أن نعمل أفراداً أو مجموعات على خط عريض وفي فضاء واسع لتشكيل حالة وطنية مدنية انسانية لبنانية ذات ثقل شيعي مهمومة بهم الوطن والدولة العلمانية (من دون عقائدية) والعيش المشترك، مولية مزيداً من الاهتمام للشأن الشيعي بسبب إلحاحه وبسبب شيعيتنا أيضاً.. واستعدنا كلام ماوتسي تونغ حول تعدد الفاعلين ووحدة النتائج (دع مئة زهرة تتفتح) والذي ضاعفه المرحوم خليل الوزير (أبو جهاد) فكان يقول: «دع ألف زهرة تتفتح». من دون أن ننسى أن بعض الورود تكون مهددة لأن يغلب شوكها على وردها اذا ما تعرضت لضغط أو إغراء. أما أننا لم نكن ننوي انشقاقاً، رغم إصرار بعض الإعلاميين على تسميتنا منشقين ظلماً، فلأننا واقعاً آتون من حساسيات مختلفة نجتمع على نقد المشهد السياسي الشيعي، وتتفاوت أراؤنا ورؤياتنا حول بقية الأمور والموضوعات.
وعليه فإن المشترك بيننا وإن كان عميقاً فإنه غير كاف لأن نتحول الى تيار أو حركة أو حزب بالمعنى التنظيمي. هذا مع إيماننا بأن كل الانشقاقات في المتحدات الواسعة، خاصة إذا كانت طائفية، لا تصحح بل ربما مكنت الجسم الذي تنشق عنه على الاستقواء بانشقاقها، والإصرار على الاستمرار في خطها من دون أي تعديل. الى ذلك.. فنحن عقلاء وأهل تجارب، ونعرف أن الحال في لبنان، رغم التشنج اليومي، سوف يؤول الى تفاهم ما، تماماً كالتفاهم على التحالف الرباعي عام 2005. في لحظة أشد حرجاً وتوتراً وانقساماً من لحظاتنا الراهنة أو مساوية لها أو أقل قليلاً.. ولكن التوتر والسجال كانا في ذروتهما ثم تشكل الحلف وتم تبادل المصالح وتجاوز الانفجار الكبير. ونحن، لأننا عقلاء، نتوقع أن يتكرر ذلك، وعلى أساس قناعتنا بأنه ليس عاقلاً من يتوقع أن ينتهي «حزب الله» وحركة «أمل» إذا سقط النظام السوري من الحكم بعد انكشافاته العميقة، وإذا ما فكر أحد بحصار «حزب الله» وحركة «أمل» فإن الخطر سوف يكون أقوى من الجانب الأقوى على الجانب الأضعف، بمعنى المعطيات المادية للقوة والضعف.. كما ان العاقل في «حزب الله» وحركة «أمل» لا بد أن يفكر انه على احتمال استمرار النظام السوري واستقوائه على مواطنيه وشعبه، فلن يكون بإمكان الحركة والحزب والهوامش الضيقة أن تستقوي بالنظام السوري على الشأن اللبناني، لأن النظام سوف يكون في حال من التحديات يمكن أن تتيح لحزب الله تحديداً ومن خلفه ايران التحكم بالنظام السوري والإملاء عليه.. هذا الى أننا لم نقدم عرضاً أو لم نستدرج عروضاً ولم نذهب الى أحد ولم ندع أحداً ليأتينا ولم نذهب الى أحد طالبين ما يحتاجه عادة تأسيس التيار على الانشقاق من أي جسم سياسي من دعم أنظمة معينة أو أجهزة متخصصة أو تمويل كاف لجمع مختلفين وإن اتفقوا وتكوين تيار جماهيري علني أعزل في مواجهة تيار كاسح ومسلح وغني وتعبوي يومي وضع الطائفة في حالة من الخوف على وجودها وعلى انجازات المقاومة.. وحولها الى طائفة ريعية مشبعة بمال منظم على العكس من فوضى المال العربي وضآلة مردوده أو عظمة خسائره.. ولأسباب كثيرة.. من أهمها أنه غير جدي لأن الذين يقدمونه لا يتنصلون من العقلانية والواقعية الزائدة عن اللزوم واللازمة في حدود معينة.. في فهمهم وطريقة تعاطيهم مع «حزب الله» وحركة «أمل» في لحظات السجال والحوار، من كونهما الطرف الذي لا يمكن التغاضي عنه للذي يريد أن يجترح تسوية في لبنان في اللحظة التي اصبح فيها الكيان على شفير السقوط.. لأنه سوف يسقط على رؤوس الجميع.
غاية الأمر ان هذه الأطراف العربية واللبنانية يرجح معظمها باب حركة «أمل» للدخول في التسوية والأقل منهم يرجحون «حزب الله» مباشرة، والأولون يخافون من استقواء «حزب الله» وتشدده وفواتيره، والآخرون يخافون من تكتيكات الرئيس بري وانقلاباته وقدرته وسرعته في ملعب التفاصيل. هذا الواقع لا يمنع أطرافاً عربية ولبنانية من التعاطف العميق – غير الفاعل – أو اللفظي مع أي حراك شيعي اعتراضي والتعامل معه كمخلوق جميل ووديع ـ وتوظيف العلاقة غير الفاعلة به في اللحظة المناسبة بجعله ورقة ولو ضعيفة في الحوار مع الخصوم من أجل التسوية.. ما يعني ان الحراك الشيعي الاعتراضي اذا لم يتنبه ويتسلح بالحذر الشديد من أن يتحول الى اداة فسوف يكون في غاية الحرج.
ليس انشقاقاً شيعياً ما قمنا به ولا شيعية ثالثة ولا مشروعاً حزبياً ولا دكاناً سياسياً.. وانما هو حالة وطنية مدنية لبنانية عربية مبرأة من الأوهام العنصرية إيمانية توحيدية اسلامية شيعية تجد سلامة الشيعة والتشيع وكمالات وجودهم في اندماج الشيعة من دون تنصل من خصوصياتهم. واردناه موقفاً للتاريخ متمايزاً عن الشيعة السياسية في لبنان من دون عداوة لأحد.. وعن الطبقة الحاكمة في ايران، وهي غير المعارضة المعبرة عن موقف اكثر الشعب الإيراني.. موقفاً من حركات الشعوب ضد حكامها الفاسدين المفسدين. موقنين بأن الإصلاح صعب.. بل هو أصعب من الفساد.. ولكن (لا بد من صنعة وإن طال السفر).
هذا ونحن منطوون.. على حب الناس – كل الناس-، خلق الله وعياله.. مستنكفون عن الجمهرة الهتافة التي تقتضي نفاقاً ومغامرات ومقامرات بأرواح الناس ومصائرهم وكراماتهم… هذا ونحن ملسوعون من الجمهور الذي يتكون حولك في ظروف مليئة وفي لحظة قوتك أو غناك المالي.. وينفض عنك ويعاديك عندما تبدو علامات ضعفك.
ختاماً.. سوف أعود للقاء بصديقي المسؤول مرة اخرى تلبية لرغبته وسوف أقول له هذا الكلام إن لم يكن قد قرأه.. ولن أعده بأن يتحول حراكنا – على صعوبة شديدة – الى حزب أو جبهة، تستخدم آلام الناس وآمالهم وقضاياهم وحرياتهم المسلوبة وخبزهم المر في تكوين عصبية مذهبية أخرى لن تكون إلا مغلقة وإن كثرت شبابيكها. فهي لا تتفتح الا على فضاءات فارغة قد يشغلها من يريد الفرجة والتسلية أو التسوية. ومن بعيد.. آخذين في ذلك عبرة من كل الذين انشقوا فعادوا لينشقوا.. لسنا اذن جزءاً من هذا القطيع ولا من ذاك القطيع.. ولسنا انشقاقاً ملغوماً بانشقاق آخر .

السابق
مرفأ صور مقفل لليوم الثالث بسبب العاصفة والسيول غمرت المنازل والمحال التجارية
التالي
حي السـلم.. منطقة منكوبة