تصحّر ثقافي عربي بعد التصحّر السياسي

ما يجمع بين مصر وسوريا وليبيا وتونس، أي بين البلدان الاربعة التي شهدت ثورات شعبية، هو دخولها في مرحلة مخاض. ستكون المرحلة طويلة، لكنّها يمكن ان تمهد، بالنسبة الى المتفائلين، لاعادة تشكيل الدولة… كما يمكن ان تؤدي الى انفراطها، اي الى تفتيت لمصر وسوريا وليبيا وتونس وذلك في ظل التصحّر الثقافي نتيجة التصحّر السياسي.
صحيح ان التغيير الحقيقي لم يحصل بعد في سوريا وأن الثورة فيها مستمرّة، لكن الصحيح ايضا ان سوريا التي عرفناها باتت من الماضي، خصوصا ان سقوط النظام مسألة وقت لا اكثر. سقوط النظام الذي زرع بذور الطائفية والمذهبية والبؤس في سوريا نفسها وفي لبنان، وحيث استطاعت يده ان تصل، سيكون بين الاحداث الاهمّ في السنة 2013، نظرا الى انه سيكون المؤشر الحقيقي لانطلاق عملية اعادة رسم خريطة الشرق الاوسط. هذه العملية اسّس لها الزلزال العراقي في آذار- مارس 2003، قبل اقلّ بقليل من تسع سنوات. وقتذاك، بدأت الحرب الاميركية على العراق التي توجت بدخول الاميركيين بغداد وتحطيم تمثال صدّام في التاسع من نيسان- ابريل.
كان لا بدّ من رحيل الطاغية ونظامه. كان ذلك ضرورة للعراقيين واهل المنطقة كلها، لكنّه كان يفترض بالادارة الاميركية أن تأخذ في الاعتبار أنّ ما تقوم به في المنطقة سيزعزع اسس النظام الاقليمي الذي كان قائما منذ عشرينات القرن الماضي اثر انهيار الدولة العثمانية.
ستطول مرحلة المخاض في البلدان الاربعة. يعود ذلك الى ان كل الانظمة التي حكمت في مصر وسوريا وليبيا وتونس سعت الى الغاء الحياة السياسية. كان هناك تصحّر سياسي في البلدان الاربعة.
لم يترك النظام المصري، الذي قام في 23 تموز-يوليو من العام 1952 اثر الانقلاب العسكري الذي اطاح الملكية، اي مجال لأيّ حياة سياسية طبيعية. وفي تتويج لالغاء الحياة السياسية، كانت آخر انتخابات في عهد الرئيس حسني مبارك. في تلك الانتخابات، لم يستطع اي عضو من الاخوان المسلمين الفوز بأيّ مقعد نيابي، علما بأنّه لا يمكن تجاهل أنّ الاخوان، خصوصا في ظلّ هبوط مستوى التعليم والثقافة في مصر، يمثلون نسبة لا بأس بها من المصريين. كان من الافضل تركهم يصلون الى مجلس الشعب، وحتى الى تشكيل الحكومة لكشف حقيقتهم وما اذا كان في استطاعتهم حلّ اي مشكلة من مشاكل اكبر بلد عربي بعيدا عن الشعارات والكلام الكبير؟
في سوريا، حيث العنف يزداد يوميا، كان اكثر من طبيعي حصول الانفجار الكبير الذي بات يهدد الكيان. أنه الكيان الذي قام نتيجة اتفاق سايكس- بيكو في العام 1916 والذي حاول العلويون تعديل حدوده في الثلاثينات من القرن الماضي مفضلين ان يكونوا جزءا من لبنان الكبير بدل ان يكونوا جزءا من دولة ذات اكثرية سنّية. فشل العلويون في ذلك. ولما تسلّموا السلطة تدريجا منذ انقلاب الثامن من آذار- مارس 1963 وصولا الى تولي حافظ الاسد الرئاسة في شباط- فبراير 1971، عملوا على تدمير مؤسسات الدولة. فعل الاسد الاب ذلك عن طريق اختصار الدولة بالاجهزة الامنية الواقعة تحت سيطرته المباشرة.
الاهمّ من ذلك كلّه، انهم عملوا على تغيير طبيعة المجتمع السوري. غطّى حافظ الاسد هذه العملية المدروسة عن طريق الشعارات الفضفاضة المرتبطة بالعروبة وفلسطين. ما يحصده بشّار الاسد اليوم هو ما زرعه والده الذي رضخ للعائلة في السنوات الاخيرة من حياته ووافق على التوريث، علما بأنّه كان مفترضا به، بفضل الدهاء الذي يمتلكه، الامتناع عن ذلك!
ليس معروفا مصير ليبيا. الامر الوحيد الاكيد أنّ معمّر القذافي لم يكتف بالقضاء على النسيج الاجتماعي للبلد والحياة السياسية فيه. ذهب الى ابعد من ذلك بكثير. قضى حتى على التعليم وعلى كل ما له علاقة بانشاء مؤسسات في دولة قابلة للحياة. يبدو أن القذّافي حقق ما كان يطمح اليه، اي القضاء على ايّ امل يقيام دولة في ليبيا بمجرد انتقاله الى العالم الآخر.
بالنسبة الى تونس، هناك وضع مختلف. فما لا يمكن تجاهله أن زين العابدين بن علي ليس بسوء القذّافي او حافظ الاسد او بشّار الاسد او حسني مبارك. كانت مشكلة زين العابدين في أنّه حوّل تونس، من بلد، الى حيّ يديره مسؤول المخفر الموجود في هذا الحيّ. جعل من تونس المليئة برجال الدولة، الذين ترعرعوا في ظلّ رجل عظيم اسمه الحبيب بورقيبة، بقي عظيما الى حين اقترابه من السبعين، دولة بوليسية لا مكان فيها سوى لموظفين صغار يعملون لدى الرئاسة لا يجيدون سوى كلمة نعم!
هل يمكن للذين ورثوا حسني مبارك ومعمّر القذافي وزين العابدين بن علي والذين سيرثون بشّار الاسد بناء دول حديثة لا تصحّر سياسيا فيها، ام أن التصحّر سينتقل، بفضل الاخوان المسلمين، من السياسة ويتمدد في اتجاه كل ما هو ثقافي ايضا؟
الخوف كلّ الخوف أنّ تكون تركة الاربعة كبيرة الى درجة سيحتاج فيها اعادة بناء الدولة الى سنوات وسنوات.
تختصر مصر ازمة ما بعد الثورات العربية باسئلة في غاية البساطة مرتبطة الى حد كبير بقيام دولة عصرية ذات شأن، بغض النظر عمّا اذا كانت تمتلك ثروة نفطية ام لا، وبغض النظر عن كمية الغاز والنفط في سيناء. بين الاسئلة التي ستطرح مستقبلا: ما مستقبل السينما المصرية؟ ما مستقبل المسرح المصري؟ هل سنرى يوما فنانا مصريا جديدا…ام انّ كلّ ما سنراه حنين الى ماض بعيد يصعب مع مرور الايام استعادته؟
  

السابق
معركة دمشق بداية حلّ أم تأجيج للنار؟
التالي
علويّّّّو عكار على سهل من قلق