لماذا يتقبّل حزب الله الانتقادات الجنبلاطية اللاذعة

ليل اول من امس ذهبت سدى محاولات بذلها أكثر من صحافي مع رموز في "حزب الله" للحصول على موقف محدد منهم حيال ما سمي "المبادرة الجنبلاطية" اذ كان الرد الموجز: اعفونا من هذا الامر.
ليست المرة الأولى يتّبع الحزب سياسة "التقية" وعدم التعليق على موقف معين ينطوي على رسالة موجهة اليه بالذات، لكن اعتصام الحزب بسياسة الصمت حيال الرسالة الجنبلاطية الأخيرة بات يحتوي على اكثر من عنصر التباس واكثر من احتمال. فالرسالة، و إن انطوت في ظاهرها على اكثر من عنصر ايجابي من زعيم المختارة تجاه الحزب، الا ان جنبلاط بدا في باطنها حريصاً اشد الحرص على التمايز والافتراق في مسائل يعرف سلفاً انها امور جوهرية، بل مسلمات بالنسبة الى الحزب.
وبمعنى آخر، لن يجد القارئون بعمق لكلام جنبلاط الاخير كبير عناء ليدركوا ان الرجل يفارق نظرة الحزب الى ما يتعدى التسعين في المئة من مسلماته (اي الحزب) بدءاً من عدم ارتباطه بمثلث الجيش والشعب والمقاومة مروراً بالدور الايراني وصولا الى موضوع المحكمة الخاصة بلبنان، اضافة الى موضوع السلاح ونظرة الحزب الاستراتيجية في موضوع الصراع العربي – الاسرائيلي، بحيث ان اي قارئ للكلام الجنبلاطي لا بد من ان يسأل علامَ إذاً يقول جنبلاط ان علاقته بالحزب ممتازة وكيف يجوز له قول هذا الكلام بعد كل هذا التشكيك والاعتراضات.
ولا بد ان في داخل جمهور الحزب من يسأل بعد ذلك: أيختلف هذا الكلام من حيث الجوهر والمضمون كثيراً عن الكلام الذي اعتاد جنبلاط ان يطلقه في معرض انتقاده اللاذع للحزب ابان كان القائد غير المعلن لفريق 14 آذار وبالتحديد قبل 11 ايار عام 2008؟
ثمة في جو المحيطين بالعلاقة بين الطرفين من يقول، وليس من باب التندر، بأن من ابرز اسباب استمرار العلاقة بينهما حتى الآن ورغم كل هذه التباينات والمواقف التي دأب جنبلاط على اطلاقها في اتجاه الحزب هو هذا الالتباس الذي يحيط بها وهذا الغموض الذي يكتنفها.
في بداية اندلاع الاحداث في الساحة السورية، وبعدما قرر جنبلاط الانحياز الى جانب مناهضي النظام في دمشق وشرع في هجماته شبه اليومية عليه، سرت حينذاك معادلة في الاوساط السياسية والاعلامية فحواها ان زعيم التقدمي أبرم و"حزب الله" اتفاقاً ضمنياً قوامه ان يتقبل الحزب الموقف الجنبلاطي الحاد المتجدد ضد النظام السوري، وان يرفض رهاناته على سقوطه على أن يبقى القاسم المشترك بينهما قائماً على قضايا الداخل ولا سيما مسألة استمرار الحكومة وموضوع السلاح وما الى ذلك.
هذه "المساكنة" بين جنبلاط والحزب وجد فيها الطرفان مصلحتهما العميقة، وجنى جنبلاط مكاسب لم تكن له حتى ابان كان رأس حربة فريق 14 آذار، إن على مستوى الحكومة إذ له وللمرة الاولى ثلاثة وزراء بحقائب ثلاث، وإن على مستوى الموقع والدور في المعادلة السياسية الداخلية حيث هو يرسم المعادلات ويكون بيضة القبان في التوازنات، وحيث هو مقصد الكل، فضلا عن انه طوّر لاحقاً هذا الموقع من خلال معادلة الوسطية التي ضمته الى الرؤساء سليمان وبري وميقاتي وقد صارت لاحقاً واقعاً قائماً جذب اليه بشكل او بآخر عيون الغرب واهتمامه فأسبغ عليه شرعية الاعتراف من خلال فتح ابواب كانت حتى الامس القريب موصدة امام ميقاتي، وهو ما وفر له ولحكومته حماية وحصانة عصمته من هجمة المعارضة الشرسة عليه.
وفي المقابل جنى الحزب فوائد جمة، إذ وفر بالحضور الجنبلاطي نصاباً سياسياً له ولحكومته يصعب على الفريق الآخر التشكيك فيه رغم ان هذا الفريق بقي متمسكاً بمسألة "القمصان السود".
ولأن الحزب دأب على مقاربة الامور من النظرة الاستراتيجية، كان في تحليله ان بالامكان احتمال "الصلف" الجنبلاطي احياناً من خلال المواقف الانتقادية الحادة لمسلّمات الحزب.
لكل تلك الاسباب ولكل الاهداف المنطوية على قدر كبير من "البراغماتية" والمنفعية والمصلحية المتبادلة عاشت العلاقة رغم ما تحتويه من منسوب عالٍ من الالتباس الممزوج بالباطنية والتقية.
لكن السؤال المطروح هو: ماذا بعد في مناخات مستقبل العلاقة بين الطرفين، وبشكل أدق هل بامكان الحزب وقاعدته أن يتقبلا استمرار هذه المعادلة الصعبة، واستطراداً هذه الوتيرة العالية من الانتقاد الجنبلاطي الذي يصل أحياناً الى حد الغمز من قضايا ومسائل هي بالنسبة الى الحزب ثوابت ومسلّمات تحت شعار "العلاقة الممتازة"؟
رغم ان رموز الحزب وقيادته ترفض الاجابة عن هذه التساؤلات وتمتنع حتى عن اعطاء تعليق ولو عابراً وأولياً على رسالة سياسة جنبلاطية معني بها الحزب بالدرجة الاولى ومطلوب منه ان يدلي بدلوه حيالها، فإن ثمة قريبين من الحزب يرون أن له مصلحة أكيدة باستمرار العلاقة مع جنبلاط رغم ما يكتنفها من غموض ومفارقات لا سيما ان المرحلة برمتها في الداخل وفي المحيط هي مرحلة بالغة الضبابية وثمة دول وجهات مهمة تعيش حالة من التشوش في الرؤية. لذا ليس غريباً أو مستهجناً أن يعيش اطراف لبنانيون بينهم النائب جنبلاط مرحلة انعدام اليقين واضطراب الرؤية خصوصاً بالنسبة إلى مآل الاوضاع في الساحة السورية حيث كل يوم هو في شأن.
والمهم للحزب ان المعادلة الداخلية التي رست بعد تأليف حكومة الرئيس نجيب ميقاتي، ثابتة الى حد بعيد، وأحد العناصر الاساسية في ثباتها ورسوخها هو جنبلاط نفسه، خصوصاً ان المرحلة هي في نظر الجميع مرحلة انتظار وترقب.

السابق
ماذا تعني زيارة 14 آذار لغزّة؟
التالي
نتنياهو: اسرائيل تواصل مراقبة التطورات في قطاع غزة عن كثب وسترد بقوة على اي خرق