علي فضل الله: نحتاج إلى سياسيين يعرفون قيمة الانسان

ألقى العلامة السيد علي فضل الله، خطبتي صلاة الجمعة، من على منبر مسجد الإمامين الحسنين في حارة حريك، في حضور عدد من الشخصيات العلمائية والسياسية والاجتماعية، وحشد من المؤمنين، ومما جاء في خطبته السياسية:

"عباد الله، أوصيكم وأوصي نفسي بتقوى الله، التقوى التي أشار إليها الله سبحانه وتعالى عندما قال: {وسارعوا إلى مغفرة من ربكم وجنة عرضها السماوات والأرض أعدت للمتقين}[آل عمران:133]. ومن صفات هؤلاء المتقين، كما ذكرها سبحانه: {الذين ينفقون في السراء والضراء} هم ليسوا بخلاء، بل إنهم ينفقون في كل الظروف، في حالة اليسر وفي حالة العسر ينفقون، قد يختلف إنفاقهم من حيث الكمية والنوعية، ولكنهم لا يتوقفون عن الإنفاق. {والكاظمين الغيظ والعافين عن الناس والله يحب المحسنين}[آل عمران: 134]، هم الذين لا يسيطر عليهم غضبهم، ولا يتحركون من وحي انفعال وتوتر، ليثيروا عنفا من حولهم، بل يكظمون غيظهم، ولا يكتفون بذلك، بل يعفون عمن أساء إليهم، حتى إنهم يبادلونهم السيئة بالحسنة. {والذين إذا فعلوا فاحشة أو ظلموا أنفسهم ذكروا الله فاستغفروا لذنوبهم ومن يغفر الذنوب إلا الله ولم يصروا على ما فعلوا وهم يعلمون}[آل عمران: 135]. فالمتقون قد يخطئون، قد يذنبون، لكنهم لا يتركون علاقتهم بربهم متوترة، بل يسارعون إلى ترتيب علاقاتهم به، بالتوبة من ذنوبهم وآثامهم".

اضاف: "هذه هي التقوى التي لا تقف عند حدود العلاقة بالله سبحانه، بل تمتد إلى الحياة، لتبعث فيها خيرا ومحبة إنسانية ووداعة. كم نحن بحاجة إلى التقوى في عالم نفتقد فيه الأتقياء، وعالم تتحرك فيه لغة المصالح والمنافع، هذا هو سر معاناتنا في كل هذا العالم".

وتابع: "نبدأ بأميركا التي عاش العالم بأسره خلال اليومين الماضيين صدى الانتخابات الرئاسية فيها، فالكل كان ينتظر الفائز في هذه الانتخابات التي لن يتوقف تأثيرها على الولايات المتحدة الأميركية، بل سيتعداه إلى مواقع بعيدة منها، تصل إلى عالمنا العربي والإسلامي، نظرا إلى اهتمام الإدارات الأميركية بهذه المنطقة، وسعيها للاطباق على مصادر ثروتها وقرارها السياسي".

وقال: "ولعل من السذاجة وعدم الواقعية بمكان، أن يراهن البعض على نجاح هذا الرئيس أو ذاك، أو نجد من يتحدث، أن هذا الرئيس الأميركي عندما تمدد ولايته لولاية ثانية، سيكون أكثر حرية، وأقدر على مواجهة اللوبي الصهيوني، أو أنه سيمتلك الحرية أكثر في السياسة الداخلية والخارجية، وكأن أميركا لا تنطلق من خلال مؤسسات، أو أن الرئيس يستطيع أن يتفرد بحكمه لها، وأن له وحده القرار فيها. فالرئيس له تأثيره، ولكن هناك مواقع أخرى للقرار، وقد علمتنا التجارب السابقة، أن السياسة الأميركية كانت وستبقى في سياستها الخارجية تنطلق من عدة ثوابت: حرصها على رفاهية الشعب الأمريكي الذي له الأولوية في كل أشكال الرفاهية على حساب الشعوب الأخرى، وحماية الكيان الصهيوني وإبقاؤه الأقوى في هذه المنطقة، والإمساك بمنابع النفط، أما القضايا الأخرى، فتبقى هامشية بالنسبة إلى هذه السياسة، وهذه كلها سبب معاناتنا".

اضاف: "لقد كان الكثيرون في العالم العربي والإسلامي يعتقدون أن أوباما أفضل لهذا العالم، انطلاقا من جذوره الإسلامية، أو من خلال بشرته السوداء أو غير ذلك، ولكن العالم العربي والإسلامي رأى أن أوباما لم تختلف سياسته تجاه هذا العالم عن سلفه سوى بالأسلوب والطريقة، فهو لم يف بكل الوعود التي قدمها بإعادة النظر بسياسته اتجاه هذا العالم، وإعطاء الحقوق للشعب الفلسطيني المقهور، وإقامة دولة فلسطينية مستقلة".

ورأى انه "خرج من العراق، لكنه فعل ذلك لأنه اكتوى بناره، لا منة منه، ويستعد للخروج من أفغانستان، لأن جيشه يعاني فيه، بعد أن جرب كثيرا الإمساك بهذا البلد، وهو، وإن لم يسمح بضرب إيران، فذلك خوفا من تداعيات هذا الأمر ومخاطره. ولذلك، نحن لن نراهن على هذا الرئيس الأميركي أو ذاك، رغم تمنينا أن يمدوا أيديهم إلى هذه الشعوب ويخرجوا من عقلية الاستكبار، ما نراهن عليه دائما في كل هذا العالم العربي والإسلامي، هو وعينا، قوتنا، وحدتنا، منع تداعيات الفتن المذهبية والطائفية من أن تعصف بواقعنا وعدم السماح لكل قوى الاستكبار أن تمزق صفوفنا".

وقال: "إن علينا أن نؤكد لأنفسنا أننا نملك الكثير من عناصر القوة؛ قوة الفكر والإرادة، ونملك أهم ثروات العالم والقوة البشرية، ولكن مع الأسف، تتداعى كل مواقع القوة في ظل هذا الجو المذهبي والطائفي والسياسي، وكل هذا التخويف؛ تخويف السنة من الشيعة، وتخويف الشيعة من السنة، وتخويف المسلمين من المسيحيين والمسيحيين من المسلمين، وكذلك تخويف العرب من إيران وإيران من العرب، فيما لا يثار الخوف من الكيان الصهيوني وكل السياسات الاستكبارية".

اضاف: "إننا بهذا الكلام لا نقصد أن نكون دعاة حرب على العالم، وليس هذا من ديننا وقيمنا، نحن دعاة حوار ديانات وثقافات وحضارات وتواصل، وقد جعلنا الله شعوبا وقبائل لنتعارف، ولكن على أساس أن نحترم بعضنا بعضا، وأن يراعي كل منا مصالح الآخر، نحن نريد رفاهية الشعب الأميركي، ولكننا أيضا نريد رفاهيتنا، نريد السلام لأميركا، لكننا نريد سلاما لعالمنا أيضا، نريد أن لا تحتل أرضنا، وأن لا ينطلق الكيان الصهيوني ليضرب هذا الموقع أو ذاك، وليهدد وحدتنا من خلال ذلك كله".

واكد "على الشعب الفلسطيني من جديد، أن يعمل على توحيد صفوفه في مواجهة العدوان الصهيوني الذي لا يزال مستمرا استيطانا وقتلا، وأن يعمل على تأكيد مواقع قوته وعدم انتظار الوعود الأمريكية، أو الإنصات إلى من يرسل إليهم الرسائل بعدم المطالبة بحق العودة، كما سمعنا أخيرا، لأن الوعود الأميركية لن تكون إلا وهما وسرابا".

ودعا "الشعب العراقي إلى العمل على تعزيز وحدته الداخلية في مواجهة سياسة القتل والتفجيرات الدامية المستمرة، حيث لا يراد لهذا البلد أن يستقر، كي لا يقوى ويمارس دوره الفاعل على مستوى المنطقة، ووقوفه مع القضايا الكبرى".

وقال: "عندما نصل إلى سوريا، هذا البلد الذي لا يزال يعاني من نزيف الدم والدمار، فإننا نبقى ندعو ونؤكد على وعي كل الأطراف إلى المؤامرة التي تستهدف استنزاف كل مواقع القوة فيه وتدمر ما بناه في سنوات طوال، كما ندعو كل المؤثرين في هذه الساحة إلى العمل على جمع كل الأطراف فيه، للوصول إلى حل يوقف العنف المستشري، لا العمل على زيادة منسوبه، هذا العنف الذي نخشى أن لا تقف تداعياته على الداخل السوري، بل يمتد لهيبه إلى الخارج".

وتابع: "إلى البحرين، فإننا في الوقت الذي ندين التفجيرات التي أودت بحياة عمال آسيويين، نستغرب ونستنكر اللجوء إلى أسلوب نزع الجنسية من بعض أفراد الشعب البحريني، كما حصل أخيرا، كأسلوب في مواجهة المعارضين للنظام، آملين أن يعاد النظر فيه وعن كل أساليب العنف كي لا تزداد الأمور تعقيدا وحرصا على هذا البلد الذي نريد له الاستقرار والأمان وجمع الشمل وتوحيد الكلمة لمصلحة البحرين بكل تنوعاتها".

واضاف: "إلى لبنان، هذا البلد الذي لا يزال يعيش التجاذب الداخلي والتوتر في الخطاب، غير مستفيد من كل المساعي المحلية والخارجية للمحافظة على أمنه واستقراره لتعزيز مناخات الحوار، للوصول إلى حل يضمن لهذا البلد الاستقرار ويمنع تداعيات ما قد يحصل من حوله. إننا نعيد التأكيد على كل الأفرقاء، أن يخرجوا من تسعير الخطاب السياسي ولغة الاتهام، إلى عقلنة الخطاب وهدوئه وموضوعيته وواقعيته".

وقال: "إن الحكومات ليست مقدسة، وكذلك الأشخاص، ولكن لا بد دائما من حسن التدبر من العواقب والفراغ والمجهول في هذه المرحلة الصعبة، فلندرس الصيغ التي تعيد توحيد البلد، لكن تحت سقف المحافظة على استقراره وعدم جعله في مهب الريح".

واضاف: "في إطار الحكومة، فإننا في الوقت الذي نقدر خطواتها الأخيرة، بإقرار هيئة إدارة قطاع النفط الذي نأمل أن لا يكون قرارا لاستيعاب ضغوط المرحلة فحسب، بل للتنفيذ والإسراع في التنفيذ، ندعو الحكومة لتحمل مسؤولياتها في القضايا الاجتماعية والحياتية، والعمل على دراسة السبل الآيلة لتنفيذ سلسلة الرتب والرواتب، لأن هذا حق المواطن على دولته أن يحصل على أدنى العيش الكريم، وإن لم تستطع الدولة تحقيق ذلك فلتصارح مواطنيها بالواقع المالي، لا أن تمنيهم بالوعود وهي غير قادرة على تنفيذها في ظل ظروف الخزينة، كي يعرف الناس كيف يدبرون أمورهم في هذه المرحلة والمراحل القادمة بدلا من الانتظار".

وختم: "إن البلد كما هو بحاجة إلى سياسة اقتصادية وتنموية، هو بحاجة إلى سياسيين يعرفون قيمة الإنسان الذي استطاع أن يفعل الكثير عندما وجد أرضا خصبة، حيث استطاع أن يفجر فيها طاقاته وإمكاناته، فلنحافظ عليه وعلى كرامته وإنسانيته كي لا يهيم من بقي منهم في بلاد الله الواسعة باحثا عن فرصة عيش كريم وعن بلد يعيش فيها الأمان والاستقرار له ولأولاده ويحقق فيه أحلامه ويعبر فيه عن طاقاته وإمكاناته".
  

السابق
فليتشر يجدد من السراي حياد بريطانيا فيما يتعلق بالشأن الحكومي في لبنان
التالي
احمد قبلان:للحد من التوتر الطائفي والمذهبي والتجاوب مع الدعوات الحوارية