لا مركزيات عربية

قامت ثورة العرب ضد الأتراك تحت شعار «اللامركزية». تحمّل الأتراك المسؤولية التاريخية عن انهيار الدولة العثمانية وتقاسمها من قبل الغرب. لم ينجح العرب في إقامة دولة اتحادية لا مركزية في ما بينهم، ومارسوا داخل كياناتهم الجديدة بعض أساليب السياسة العثمانية. يواجه العرب اليوم في معظم البلدان العربية تحديات الوحدة وتحمّل العديد من القوى مسألة اللامركزية ومطلب الدولة الاتحادية. فشلت الاتحادية في السودان وانتهت إلى التقسيم. لم توفر الاتحادية العراقية بعد صيغة لوحدة واستقرار البلاد. ولم تنجح الوحدة اليمنية في تعزيز الولاء للدولة الواحدة ويطرح الحراك الجنوبي مطلبه الأقصى بالانفصال. أما في ليبيا فيناقش المجلس الوطني المنتخب شكل الدولة والدستور ويواجه حركة قبلية وإثنية (إمازيغية) وجهوية تطالب إما بالانفصال أو باللامركزية. وفي لبنان يطرح مبدأ اللامركزية مجدداً بصيغ انتخابية. وفي سوريا يتزايد الحديث عن «طائف سوري» أي عن صيغة لبنانية، ولا يتراجع تحذير دول الخارج من احتمالات التقسيم. وفلسطين مقسّمة بأي حال بين الضفة والقطاع، وأحد المشاريع المطروحة ما زالت في اتحادية ما مع الدولة الأردنية. وفي مصر هاجس المسألة القبطية يتزايد، وفي السعودية تتصاعد الهوية الشيعية في المنطقة الشرقية. وتشكّل مسألة الإمازيغ في المغرب والجزائر قضية فعلية، كما المسألة الكردية في العراق وسوريا، إلى جانب المكوّنات الطائفية والمذهبية في معظم الدول العربية.
في هذا الواقع العربي نحتاج إلى فكر سياسي ودستوري يستوعب هذه المشكلات وعدم التعامل معها إما بالتجاهل أو بالإنكار، ولا طبعاً بالنظرة الإيديولوجية المطوّرة عن النظرة القومية العربية الوحدوية.
من المؤكد أن ليس هناك صيغة مثالية لشكل الدولة الحديثة، وليس هناك من دستور يمكن نسخه كناظم للدول من طبيعة واحدة. بل إن اللامركزية كأحد أشكال الأنظمة السياسية كانت دائماً مطروحة بصفتها وسيلة للاحتفاظ بشكل واقعي توحيدي وليست خياراً للتفكيك. قد تنجح اللامركزية وقد لا تنجح في حل المشكلات في المجتمعات التعددية، لكنها ليست فزّاعة ولا صيغة شيطانية ولا هي بمثابة تهديد وخطر يجب تداركه. على العكس من ذلك حين يتأخر علاج المشكلات التعددية ويتعمّق الانقسام في المجتمع يفرض التقسيم نفسه ويتراجع احتمال نجاح اللامركزية. واجهنا هذا الأمر في السودان ونواجه بعض مقدماته في العراق ولبنان، وقد نواجهه في سوريا إذا توافرت له توازنات القوى السياسية.
القضية المطروحة على العالم العربي اليوم هي في كيفية خفض منسوب التوترات والنزاعات الأهلية التي تتخذ شكل صراع الهويات تحت سقف الكيانات الوطنية القائمة. قد يشكّل هذا في ذهن البعض نوعاً من الارتداد عن الوطنيات وكل الفكر الرغبوي التوحيدي، لكنه يعكس أزمة الدولة القطرية بعد أن «ابتُلع» و«رضخ» لمنطقها بدلاً من إنجاز مشروع الدولة القومية. فشلت الدولة القومية لأن كل المحاولات نحوها قامت على مشاريع سياسوية فوقية ولم يبنَ خلال قرن أي أساس مادي متطور لتقوية الروابط التاريخية والموضوعية القائمة. وتفشل الدولة القطرية اليوم لأنها كذلك لم توفر الإطار السياسي الملائم للاندماج الوطني. فلا الهياكل السياسية ولا الدساتير ولا الإيديولوجيات ولا التعبئة العاطفية ولا سوى ذلك يستطيع أن يوفر هذا الاندماج ما لم تترسخ قيم المواطنة كمعطيات ثابتة يدافع عنها الناس ويحتكمون إليها. فشلت الدولة القطرية ليس من حيث مكوّناتها البشرية وتعدديتها بل لأن السلطة التي قامت في هذه الأقطار غذت وعمّقت المصالح والولاءات الفئوية.
لا نستطيع اليوم إعادة إغماد الهويات التي ظهرت على المسرح السياسي بالدعوة إلى وحدويات بسيطة ما لم نقدم حلولاً حقيقية أساسها ضمان الحرية والمساواة. ولا مساواة ولا حرية طالما أن الثقافة الدينية ما زالت تفعل فعلها في تقسيم المجتمع وفرض التمايز بين المواطنين. من حق الجماعات، إذا لم تطمئن إلى السلطة المركزية في حقوقها السياسية والتنموية والاقتصادية والاجتماعية، أو في حريتها الدينية أو اللغوية أو الثقافية عموماً، أن تطالب بنظام سياسي يوفر لها هذه المطالب. ليست اللامركزية وحدها هي الصيغة أو الدولة الاتحادية، بل قد يكون نظام ثنائية التمثيل والتنظيم الإداري والحقوق الاقتصادية والاجتماعية، وكذلك قانون الانتخاب من بين الحلول الممكنة. المهم أن لا تكون الحلول مفتعلة أو منطلقة فقط من توازنات القوى والأرجحيات والأكثريات البسيطة التي لم تعد معياراً وحيداً للديموقراطية وللمشاركة.
ما يحتاجه العرب في هذه المرحلة التاريخية من الفوران السياسي هو الفكر الحر المنفتح العملاني، وليس الإيديولوجيات والأنماط والأنساق المسبقة.
المسألة طبعاً ليست بلورة أفكار واقتراح مشاريع للدولة أو للنظام السياسي، بل هي مسألة مصالح وموازين قوى. لكن المهم ألا يجري تعمية الجمهور بإطلاق المحرّمات وإقفال النقاش والتفكير الحر على ما هو ضروري الآن لصياغة الاجتماع العربي.
  

السابق
الشرق الأوسط: معارك ضارية في حلب.. وكلينتون: نرى بوادر سوريا الجديدة
التالي
المخاوف على الاستقرار جدية وتعطيل الانتخابات احتمال