الدرس من توتو

الاسم في العنوان ليس مقتبساً من الكلمة الشائعة التي تعتبر صفةً لإنسانٍ استهوى «التبعية» لا إرادة له ولا شخصية فنقول أنّه «توتو»، بل هو اسمُ رجلٍ يُعتبر قمة مميزة في هذا العصر، وصل بأخلاقياته وسلوكه وتجرّده ليكون رئيس أساقفة. إنّه ديزموند توتو، الذي يرفض الجلوس على منصّةٍ يشاركه فيها رئيس وزراء بريطانيا الأسبق طوني بلير.
ما هو الدرس الذي نتعلّمه من توتو؟ وما هي المناسبة؟
استضافت دولة جنوب أفريقيا في الأيّام الأولى من هذا الشهر ـ أيلول، مؤتمرَ قمّةٍ دوليّاً بعنوان: «القيادة». وكان من المقرّر أن يجلس على المنصّة في هذا المؤتمر الدولي، رئيس الأساقفة ديزموند توتو، وإلى جانبه رئيس وزراء إنكلترا الأسبق طوني بلير، ولكن المواقف الأخلاقية المتباعدة بين الرجلين، وقفت حائلاً دونهما، ودفعت توتو إلى رفض المشاركة، لأنّه يرفض الجلوس إلى طوني بلير الذي لعب دوراً سيئاً للغاية في الإعداد للحرب الأميركية الدولية على العراق وشنّها، بحجّة امتلاك العراق سلاحاً نووياً، وبحجّة استعادة العراق الديمقراطية.
كان من المقرّر أن يشارك توتو، لكنّه حين عرف أنّ بلير سيكون إلى جانبه على المنصّة رفض وأعلن انسحابه احتجاجاً على دور بلير الدموي، وقال في تبرير انسحابه، ما معناه أن «تبرير عمل بلير بحدوث مذابح كثيرة في العراق على يد صدّام حسين لا يبرّر ما ارتكبه رئيس وزراء بريطانيا آنذاك، وذلك من منطلق أنّ الأخلاقيات والقيادة لا ينفصلان».

وقال مكتب بلير في بيانٍ حول هذا الموقف، إنّ تلك القرارات التي اتّخذها بلير ليست سهلة أخلاقياً أو سياسيّاً. هذا ما قاله مكتب بلير، ولكن ماذا قال رئيس الأساقفة ديزموند توتو؟
انسجم رئيس الأساقفة مع دينه وأخلاقياته ومواقفه، ومع قناعاته من الأساس فقال: «إنّ تأييد بلير غزوَ العراق أمرٌ لا يمكن الدفاع عنه أخلاقياً». وقال أيضاً: «إنّ الأخلاقيات والقيادة لا يتجزّآن».
نحن في لبنان نوفّق بين «انعدام الأخلاق والقيادة» بموقفٍ مستهجن، وبمصطلح غريب نسمّيه «اتهاماً سياسياً»، أو «موقفاً سياسيّاً»، أو «كلاماً سياسيّاً»، وهذا يعني إننا ما دمنا نلحق صفة «سياسيّ»، فالخروج عن الأخلاق أو التخلّي عن أخلاق القيادة، مسموح بهما وجائزٌ، بل ربما هو في عرف البعض مطلوبٌ وموضع تقدير.

يذكّرني موقف ديزموند توتو الأخلاقي عن ضرورة أن تكون الأخلاقيات والقيادة وجهان لعملةٍ واحدة، بموقف الزعيم أنطون سعاده في تموز من عام 1949، أثناء ما سُمّي زوراً وبهتاناً «محاكمة». ولم تكن محكمة ولا محاكمة .
قالت الحكومة اللبنانية يومئذٍ في التغطية على فعلتها أنّ سعاده تهرّب من تحمّل مسؤولية إعلان الثورة، وكان ذلك كذباً صريحاً ووقاحةً ما بعدها من وقاحة، إذ كنتُ أحد الشهود في تلك القاعة حين قال الزعيم إنّه مسؤولٌ عن رجاله وعن كلّ كلمةٍ قالها. ولما سئل عن الذين جِيء بهم من السجن ليقولوا: «نعم، إنّه الزعيم»، سأله المدّعي العام بشماتة: «والآن، ماذا تقول يا أنطون؟»، فردّ النسر: «إنّهم شبابٌ نفّذوا أوامر أُعطيت إليهم، وآمل أن يُعامَلوا على هذا الأساس». لم يتهرّب، بل قال ذلك صراحةً لمن يفهم أنه أصدر أمراً نفّذه أولئك الشباب.

كان ذلك قبل زمن رئيس الأساقفة ديزموند توتو ونقيضه طوني بلير بأكثر من ستين سنة، يوم أعطى الزعيم درسه الأخير في أهمية الأخلاقيات والقيادة وتلازمهما .
أَفَلا نرى اليوم أنّ أزمة العالم كلّه تكمن في الفصل بين الأخلاق والقيادة؟ أَوَلا نرى ما يحدث وما يقال في العلن، وكيف يتناقض مع كل ما يقال وراء الأبواب المغلقة؟
نعم، إنّها أزمة أخلاقٍ قبل أن تكون أزمة قيادة .
التحية إلى الزعيم سعاده، ومثيلتها إلى ديزموند توتو .  

السابق
للصمت حدود.. يا وطن
التالي
هل تنقل سوريا مخزونها من الأسلحة الكيميائية؟