دمشق تحرك حروب الاقليم والحسم بعيد

لم يكشف الجنرال روبرت مود جديداً. جميع اللاعبين في الساحة السورية يعرفون أن سقوط النظام مسألة وقت. وما يقلقهم ليس سقوطه بل احتمال سقوط سورية كلها وغياب أي قدرة على استعادة حكمها أو بناء نظام جديد. ما جرى منذ زمن وما يجري هذه الأيام هو استكمال التدمير الممنهج لمعظم المدن والحواضر السورية. لم تخرج المعارضة من مدن حمص وحماة وإدلب ودرعا وغيرها، لكن هذه لم يبق من معالمها شيء. وهذا ما يحصل وسيحصل للعاصمتين أيضاً. عملية «بركان دمشق» قبل أسبوع انتهت بلا حسم. لم يحقق «الجيش الحر» والجماعات المقاتلة ما كانت تطمح إليه. نفدت ذخيرتها، وجيش النظام لم يتورع عن استخدام كل آلته التدميرية.

ولا ينتظر أن تشكل «أم المعارك» في حلب مصيراً مغايراً. علماً أن المجتمع الأهلي فيها عبر عن تمرد واسع بمختلف تشكيلاته وهيئاته. ولا يتوقع أن توفر تركيا الدعم المطلوب لتحويل عاصمة الشمال «بنغازي» جديدة يمكن أن تشكل منطلقاً للمنشقين وتسهل على القوى الخارجية أداء دور أكبر في دعم الثورة. وفي حين تمعن موسكو في «قهر» أنقرة لا ترى واشنطن وجهاً للشبه بين حلب وبنغازي! ولا يعني ذلك أن النظام انتصر أو سينتصر في هذا «البركان» المتنقل في كل أرجاء البلاد. لم يربح أحد حتى الآن. ولن يربح أحد في المستقبل المنظور، وإن كانت النتيجة النهائية معروفة لمصلحة الناس.

ما صرح به الرئيس السابق للمراقبين الدوليين نعي واضح لمهمة المبعوث الدولي – العربي كوفي أنان الذي لم يكن مطلوباً منه في الأساس سوى السعي إلى توفير مزيد من الوقت للاعبين الدوليين والإقليميين. وبات واضحاً أن هذه المهمة استنفدت غرضها. لذلك، لجأ النظام إلى تشريع الأبواب واسعة أمام تصدير «حروبه الأهلية» إلى أكثر من جبهة: من إثارة قضية الأسلحة الكيماوية والجرثومية التي قضّت مضاجع كثيرين، خصوصاً إسرائيل. إلى قضية تسليم تنظيمات كردية مناطق واسعة محاذية للحدود مع تركيا التي لم تتأخر في التعبير عن مخاوفها. ومثلها فعلت قوى في المعارضة السورية التي أقلقتها إثارة قضية قد تشغلها عن المواجهة الكبرى مع النظام. إلى قضية اللاجئين الذين يتدفقون إلى دول الجوار وقد يشكلون مستقبلاً بؤر توتر في مجتمعات هشة تقف على شفير الهاوية، من لبنان إلى الأردن والعراق. وفوق هذا وذاك تصاعد الحديث عن احتمال تفتيت البلاد وتقسيمها على غرار ما حل بيوغسلافيا وما ينذر ذلك بحروب مذهبية لن تكون إيران ودول عربية بمنأى عن الانخراط فيها.

اللعب بالقضية الكردية في سورية أكثر خطورة وأشد تعقيداً. منذ البداية لزم الكرد ما يشبه الحياد في الأزمة. لم ينخرطوا في الحراك كما كانت تأمل المعارضة. ولم يشايعوا النظام كما فعلت أقليات أخرى. انتظروا هذا الاهتراء ليبدأوا مسيرة إقامة أمر واقع في مناطق وجودهم الكثيف. لذلك، لم تفلح كل مؤتمرات «المجلس الوطني» من اسطنبول إلى القاهرة في ضمهم إلى صفوف المعارضة. كما لم تفلح كل الإغراءات التي قدمها النظام منذ البداية في دفعهم إلى الدفاع عنه. مشكلتهم تشبه مشكلة إخوانهم في العراق قبل انهيار نظام صدام حسين. لم يغفروا للبعث في دمشق محاولات طمس هويتهم القومية. بعض أدبياته تحدث صراحة عن وجوب «تعريب الكرد». وبعض سياساته وفرت للعناصر العربية التي تتجاور معهم في المدن والنواحي وكثير من القرى كل الدعم لإخضاعهم. هذا من دون الحديث عن حرمان عشرات الآلاف منهم من بطاقات الهوية. وعندما وجد النظام حاجة إليهم في عز صراعه مع البعث في بغداد لم يتأخر في إرضائهم إلى حين. ولم ينسوا ما حل بهم بعد الغزو الأميركي العراق من ممارسات القمع والتكنيل والحرمان والتضييق، عندما انتفضوا في وجه الأجهزة الأمنية.
تجربة أشقائهم في كردستان العراق تغريهم. لن يصلوا إلى مرحلة المطالبة بالاستقلال. ولكن لا بأس من تكريس أمر واقع قد يتحول إلى ما يشبه الإقليم الفيديرالي في العراق. ولكن هذا الأمر قد يستثير ليس العرب السوريين فحسب، بل قد يفتح باب التدخل واسعاً أمام تركيا عندما يحين وقت التدخل.

هذه «الخطوة» الكردية عززت المخاوف من تفتيت سورية. فالجميع يدرك أن نظام الرئيس بشار الأسد لن يسلم بأي حل سياسي. لن يسلم بمرحلة انتقالية حتى وإن سقطت العاصمتان. ثمة سيناريو قديم كان خصوم النظام يتحدثون عنه باستمرار: إذا ضاق الخناق على أركان النظام وقواه المقاتلة لن يكون صعباً عليهم الانتقال إلى منطقة الساحل الغربي للتحصن هناك والدفاع عنها ما استطاعوا إلى ذلك سبيلاً. فإن لم يؤدِ ذلك إلى تقسيم حقيقي فإنه سيوفر لهم ملاذاً آمناً. ويقيهم على الأقل من المحاسبة والمطاردة لاحقاً إلى أن تنضج الظروف لتحقيق تسوية ما. وهو ما ترى إليه غالبية السوريين مؤشراً إلى بداية تفتيت بلادهم، على طريقة ما حدث في البلقان وأدى إلى تفتيت يوغسلافيا. خصوصاً في ضوء محاولة الكرد الاستقلال ببعض مناطق انتشارهم لإقامة منطقة حكم ذاتي يمكنهم الانطلاق منها لاحقاً للتفاوض أيضاً على حدود «استقلالهم» في إدارتها.

والسؤال هنا هل يعقل أن ترضى روسيا في نهاية المطاف بمثل هذا السيناريو؟ تتصرف موسكو على أنها تسعى إلى استعادة موقعها قوة عظمى ونداً للولايات المتحدة فهل ترضى بالنزول إلى هذا النوع من الحلول؟ إذا كان المنطق يطرد مثل هذا الرضى، فإن مثال جورجيا مثال حي وقائم. اقتطعت موسكو «دويلتي أوسيتيا وأبخازيا» رداً على «تدخل» الغرب في فضائها الحيوي.
وبعيداً من موقف موسكو، لا يمكن هنا تجاهل موقف الغالبية السورية التي وحدها حددت وتحدد حتى اليوم مجرى الأزمة وأحداثها بصرف النظر عن موقف روسيا أو الولايات المتحدة وأوربا وغيرها من الدول. السنّة في سورية قد يكررون تجربة الشيعة العراقيين الذين ظلوا طوال سنين يشعرون بأن «شرعية» االحكم يجب أن تؤول إليهم نظراً إلى رجحان كفة تعدادهم في مواجهة تعداد السنّة العرب. ويبدو سنّة سورية بعد هذه الشهور الدموية الطويلة من مقارعة النظام مصممين على استعادة ما يعدونه «شرعية» الحكم الذي يجب أن تؤول إليهم في النهاية. وانطلاقاً من هذه القاعدة قد لا يتوانون عن مواصلة حربهم لمنع تقسيم البلاد وتفتيتها. وهو ما قد يرفع من وتيرة الحرب المذهبية بين السنّة والعلويين وربما الحرب الإثنية بين العرب والكرد. ولن تقف هذه الحروب عند حدود سورية وحدها. قد تمتد إلى العراق بشيعته وكرده، وإلى لبنان أيضاً. ولوحت إيران صراحة على لسان أحد جنرالاتها مسعود جزائري بأن «الشعب السوري وجبهة المقاومة لن يسمحا بتغيير النظام». وهددت بتوجيه «ضربات حاسمة إلى جبهة العدو خصوصاً العرب المكروهين»!

والتحرك الإيراني بمقدار ما يخدم الموقف الروسي يقلق الإدارة الأميركية التي كان تركيزها الأساس أولاً وأخيراً على إيران أكثر منه على سورية. وهو موقف إسرائيل أيضاً. صحيح أن سورية شكلت وتشكل جسر عبور لإيران وصواريخها إلى جنوب لبنان وأن تدمير هذا الجسر سيلحق خسارة كبرى بالعنصر الأهم من استراتيجيتها في الشرق الأوسط. لكن الصحيح أيضاً أن واشنطن وتل أبيب تدركان عظم الأخطار التي يعنيها جر طهران إلى حرب واسعة في المنطقة كلها. وتشعر الولايات المتحدة في هذه المرحلة بحاجة ماسة إلى شراء مزيد من الوقت. وهي تالياً بحاجة إلى الدور الروسي في التعامل مع الملفات الإيرانية. وهو ما دفعها ويدفعها حتى اليوم إلى سياسة الانكفاء عن التدخل المباشر في الأزمة السورية.

وأفادت روسيا بالطبع من إحجام البنتاغون عن الاستعداد لأي تحرك عسكري في وقت لا تزال أميركا تعاني من عقدة حربي أفغانستان والعراق ومن العبء الاقتصادي الذي ترتب عليهما. وهي إذ استحوذت على الورقة السورية كاملة بحيث بات مصير الأسد في يدها وحدها، ستحاول التلويح بالورقة الإيرانية حتى استنفاد كل أدواتها من أجل فرض نفسها شريكاً أساسياً في رسم مستقبل المنطقة ونظامها الأمني والسياسي. نظراً إلى ارتباط هذا النظام بمسائل الإسلام السياسي وانعكاساته على الداخل الروسي والدول الإسلامية المحيطة بهذا الداخل. ونظراً إلى ارتباط هذا النظام بمستقبل الطاقة والمشاريع الكبرى المتعلقة بهذا القطاع الحيوي للعالم أجمع.

وليس مصادفة في هذا الوقت تكرار التهديدات الإيرانية بالتدخل لمنع سقوط نظام الأسد. وليس مصادفة أن تقر غالبية في البرلمان الإيراني مشروع قانون يهدد بإغلاق مضيق هرمز رداً على العقوبات الأوروبية على النفط الإيراني. وليس مصادفة أن توجه صنعاء اتهامات إلى طهران بالتدخل في اليمن، فهي تتدخل منذ زمن لدعم الحوثيين وبعض مجموعات «الحراك الجنوبي». وليس مصادفة أن توجه أميركا وإسرائيل اتهامات إلى طهران و «حزب الله» بالوقوف وراء الاعتداء في مطار بلغاريا. وليس مصادفة تململ دول الخليج ودول عربية أخرى كثيرة من التدخل الإيراني في شؤونها.
أن يدخل العامل الإيراني بقوة على الأزمة السورية، وأن تهتز المنطقة كلها على وقع الصراع المذهبي والعرقي ليس ما يضير روسيا، بمقدار ما يعزز موقعها في مواجهة الغرب وعرب كثيرين. وأن تتفتت سورية وتصبح عاجزة عن إدارة شؤونها بعد غياب النظام ليس ما يضير أميركا وإسرائيل. وهذا فصل جديد قد يطول وتطول معه آلام السوريين وجيرانهم أيضاً.  

السابق
قلق أوروبي على سوريا ولبنان
التالي
ضبط متفجّرات في الرميلة