حوار الباطنيّات السياسية

لا يتفق اللبنانيون اليوم على مسائل أساسية لعيشهم معاً. يختلفون في تشخيص طبيعة المواجهة مع إسرائيل وكيفية التعامل معها؛ في طبيعة الدولة ووظيفتها وتكوين مؤسساتها وتوزيع السلطة فيها؛ في إدارة الثروة الوطنية وتقاسمها وحدود الفوارق الاجتماعية وكيفية ترتيبها على اللبنانيين، أفراداً وجماعات ومناطق؛ في صيغة العيش معاً وثقافة هذا العيش وقيمه المشتركة وأولوياته وأهميته وهدفه.
لأجل ذلك، تتعاظم أهمية الحوار الوطني وتتجاوز العناوين التي تنحصر في الشؤون السياسية الوحيدة الجانب حتى لو كانت تتعلق بمسألة مهمة كمسألة السلاح الموجود خارج سلطة الدولة.
تراكمت مشكلات الخلاف بين اللبنانيين منذ تسوية الطائف لأن معظم الفرقاء تصرفوا على أن تلك التسوية ضرورة لوقف الحرب وليست صيغة لترميم الدولة وبنائها على تلك المسلمات والقواعد التي أفرزها الصراع الأهلي وبلور المخارج لها. ربما كان الطائف ثمرة توازن سياسي نشأ عرضاً في نهاية العام 1989 ثم بدأ يتغيّر منذ العام 1990.

ففي نظر الشركاء، وهذا أمر معقول، تبدلت الأجواء الإقليمية والدولية مع حرب الخليج الثانية ومع انهيار مفاوضات مدريد، وعشنا في ظلال تطبيق موقت «لطائف سوري» الملامح وقد زالت أسبابه في العام 2005 والعاصفة الإقليمية التي ضربت المنطقة باحتلال العراق وخروج القوات السورية من لبنان.
عشية الطائف كان المسيحيون قد خسروا كل رهاناتهم السياسية، وكان الشيعة لم يحققوا بعد كل إنجازاتهم السياسية. قطف السنة في السياسة ثمرة هذا التوازن ومعه التوازن الإقليمي وأرجحية الخليج العربي فيه. لكن السنية السياسية التي أوكلت اليها إعادة بناء النظام السياسي والاقتصادي منذ العام 1992 أنتجت ظاهرات أكثر شططاً من تجربة المارونية السياسية. قبضت على مفاصل البلد السياسية والإدارية والاقتصادية وتخلّت مكرهة عن كل مؤسسات الأمن والسياسة الخارجية والدفاع الوطني. وحين قررت استكمال قبضتها في المناخ الدولي الجديد ومشت في ركاب القرار 1559 انفجرت التسوية اللبنانية بجميع عناصرها. توافر في وجه السنية السياسية تحديان: الأول هو مطلب الشيعية السياسية في حصة سلطوية موازية، والثاني مطلب المارونية السياسية في حصة سياسية موازية. واقعاً صارت المثالثة في أقل تقدير الهدف الضمني لكل نوازع السياسة خلال سنوات عدة على ما في هذا المطلب من نقض للطائف في نسختيه الدستورية والإصلاحية المؤجلة وفي نسخته الواقعية التي أرستها تقاليد الجمهورية الثانية.

لكن الأمر الأكثر أهمية وخطورة هو أن توازن القوى السياسي لم يستقر بعد ولم تحسم وجهة المعادلة الإقليمية التي تعطي الأطراف رهانات أبعد من اللحظة السياسية. فقد دخلت المنطقة في مواجهات متعددة الأشكال والمستويات، كما انفجرت أزمة المحيط الجغرافي المباشر، ما يعني للبعض أن الآفاق مفتوحة حتى لأشكال من الغلبة وليس فقط للتوازن والتسوية. وإلى هذه الخارطة السياسية يضاف البُعد الطائفي والمذهبي والديني الذي يضخ شحنات من التصادم لم يسبق لها أن كانت في التسويات الطائفية السابقة.

لهذه الأسباب العميقة والبعيدة، يبدو الحوار اللبناني هشاً وهامشياً ومرحلياً ما لم يضع في جدول أعماله قضايا الخلاف كلها دفعة واحدة في مرمى الحوار والتفاوض. أما الأسباب التي يدلي بها فرقاء النزاع السياسيون عن شروط التفاوض ومطالبهم الظرفية فليست إلا ذرائع يمكن استبدالها كل يوم. لا حل لأزمة لبنان، ولمأزق دولته وكيانه، ما لم يقر اللبنانيون بأنهم في صدد تحديد وتجسيد تلك العبارة التي وردت في مقدمة الدستور: «لبنان وطن نهائي لجميع أبنائه».   

السابق
بشِر القاتل بالقتل
التالي
هل اقترب الأسد من الرحيل؟