إقصاء الرموز الأمنية السورية

هناك اغتيالاتٌ ملتبسة سياسياً حتى لو كان الفاعلُ واضحاً أمنياً، وهناك اغتيالات واضحة سياسيا حتى لو كان الفاعل ملتبساً أمنياً. هنا محاولة لقراءة سياسية لحدث تفجير القيادة الأمنية السورية الأسبوع الماضي في دمشق بالمقارنة مع اغتيالات سابقة.

وقْعُ المفاجأة الإستثنائية بكل المعايير المتولّدةِ عن تفجير "خلية الأزمة" السورية، أي المجموعة الأمنية الرفيعة المستوى مناصبَ أو فعاليةً في النظام السوري، يجعل الجميع في سوريا والعالم متفقين على أن مرحلة خطيرةً لاسابق لها في مسار ومصيرالنظام السوري قد بدأت.
لكن إذا كان من الصعب الجزم بماهية القوة المدبِّرة على الضفّتين المتصارعتين فإن محاولة القيام بمقارنات مع تفجيرات في تجارب وأوضاع سابقة عبر القراءة السياسية للأحداث الأمنية قد تكون مفيدة في "تنظيم" تفكيرنا في الموضوع.
الأمر الأكيد أن "تفجير الروضة" في دمشق هو عملُ دولٍ، دولٍ قادرةٍ أينما اتجهت "مخيلتنا" حول سياقه السياسي. هذا من شأنه أن يحصر "بسهولة" عددَ المتّهَمين، فرادى أو مجموعة، كما يُقال بلغة التحقيق "القضائي"، أو مسرحَ الإعداد، بالمتّهَمين التالين: الولايات المتحدة الأميركية (ومن ضمنها اسرائيل) والمخابرات الأطلسية ، المملكة العربية السعودية، تركيا، روسيا، إيران، النظام السوري نفسه على سبيل الذهاب بالفرضيات الى أقصاها. عدا واحدة او أكثر من هذه الدول سيكون من إضاعة الوقت التفكير بفاعلٍ آخر خارج هذا النطاق "الدولتي" حتى لو كان "تنظيم القاعدة". وعلى فرضِ أن لعناصر من "القاعدة" دوراً في التنفيذ فهو دورٌ تابعٌ على الأرجح للنطاق "الدولتي" الأساسي.
الأمر الثاني هو أنه أحياناً في حالة استهداف شخصية رئيسية في النظام يمكن "التضحية" بالنسبة الى الفاعل بشخصيات أخرى لايمكن "اصطياد" الشخص المستهدَف إلا بوجودها… فيُفجَّرُ الجميع، مثل حالات عديدة في دول عديدة من مختلف القارات جرى فيها تفجير هذه الطائرة او تلك بسبب وجود شخصية مهمة مستهدَفة عليها، أو مثل ما قيل عن التفجير الشهير في أوائل الثورة الإيرانية من أن إلغاء صعود آية الله بهشتي عبر زعامة الحزب الجمهوري قد استلزم إبادةَ أكثر من مائة كادر قيادي أساسي في الثورة في تفجيرٍ واحد استهدف قاعةً واحدةً، بحيث لا مبالغة في التذكير أنه بعد ذلك التفجير كان ينبغي على الصحافيين الذين كانوا يتابعون الوضعَ الإيرانيَّ عن قرب آنذاك إعادة التعرّف من جديد على "وجوه" الثورة تقريبا مع انتقال العديدين من الصف الثاني إلى الصف الأول ! على أي حال … فغياب السيد بهشتي افتتحَ "ميزان قوى" مختلفا في السلطة الإيرانية أيا يكن الفاعل.

تفيد هذه المقارنة في حالة كان المستهدَف الأساس هو الجنرال آصف شوكت. لكن هذا الرأي يبعدنا عن واقع آخر وهو أن التفجير حتى بدون آصف شوكت كان سيكون له تأثير معنوي كبير أيا تكن حقيقة أهمية الشخصيات الأخرى. مع ضرورة الإنتباه أن احتمال استهداف الجنرال شوكت يَجرّنا فورا نحو مقارنات أخرى. فمن حتى اللحظة يستطيع أن يجزم إذا استعدنا حقبةً منصرمةً أن اغتيال بشير الجميل عام 1982 كان "بسيط" الهدف؟ أي قيام أعدائه فقط بإقصائه وليست إزاحتَه التي فتحت الطريق السياسية يومها أمام "جبهة" متداخلة من أعدائه و أصدقائه الإقليميين والدوليين بمعزل عن المُعِد والمنفّذ المباشريْن. ولا نريد أن نبتعد عن الموضوع بسبب الفارق الضخم في الأحجام والأدوار عبر استذكار اغتيال الرئيس المصري أنور السادات في نقطة وحيدة أساسية هي أن هذا الاغتيال جاء في لحظة سياسية أصبح فيها السادات عبئاً على أعدائه وأصدقائه معاً. وطالما أننا عَبَرْنا إلى لبنان تَجِبُ الملاحظةُ أن اغتيال رفيق الحريري لا يقع في هذه الخانة الملتبسة لأنه واضحٌ سياسياً ولو كان ملتبساً أمنياً. بينما اغتيال الرئيسين رياض الصلح و رينيه معوّض وبينهما اغتيال كمال جنبلاط ملتبسةُ سياسيا لأنه في الحالات الثلاث "مرّر" النظام العربي الإغتيال أي وافق عليه واقعياً لأسباب مختلفة في كل حقبة بينما لم "يمرّر" النظام الدولي ولا الإقليمي إغتيال الحريري.

أيضا يُستذكَر في هذا السياق، ودائماً مع التحفظ على الفوارق في الأحجام والأدوار والظروف، اغتيال وصفي التل رئيس الوزراء الأردني القوي عام 1971 في القاهرة. بدا هذا الاغتيال وقتها وكأنه "الثمن المقبول" أردنياً وعربياً للصدام الذي حدث بين الفصائل المسلّحة الفلسطينية وبين النظام الأردني بين 1969 و1971. أين مثلاً يبدأ الداخلي ويمتدّ الخارجي في أحد أهم الإغتيالات في تاريخنا السياسي العربي المعاصر وهو اغتيال العاهل السعودي الملك فيصل بيد أحد أمراء العائلة…إذا كان موت الرئيس جمال عبدالناصر قبْلهُ، وهوالأخطر سياسياً، وموتُ الرئيس ياسر عرفات بعده… ليس اغتيالاً؟؟ … حتى أن بعض الإغتيالات لا يُمكن تفسيرُه أمنيا، فقط التفسير الممكن سياسيٌّ… مثل إغتيال الرئيس اليمني ابراهيم حمدي عام 1979 وإبعاد السيد موسى الصدر عام 1977( على يد العقيد القذافي إنما لصالح غيره) واختطاف وزير الخارجية الليبي السابق منصور الكيخيا عام 1991 من قلب القاهرة (على يد مخابرات الرئيس حسني مبارك إنما لصالح القذافي) وطبعاً القضية الشهيرة في الستينات وهي اختطاف المعارض المغربي الكاريزمي المهدي بن بركة (على يد المخابرات الفرنسية وإنما لصالح المخابرات المغربية وهو أمرٌ أصبح ذهنيةً وسلوكاً من الماضي "السحيق" في المغرب).

لوحظ أنه تَرافقَ مع التفجير حصولُ هجومٍ عسكريٍّ كبيرٍ قام به "الجيش الحر" للمرة الأولى داخل دمشق. وهذا الحدث المرافق للحدث الأساسي يدفع الى ترجيح أن الخطة الهجومية من الدولة أو الدولة المدبّرة كانت ترمي للإستفادة من إرتباك النظام بعد "تفجير الروضة" عبر خلق واقع عسكري جديد داخل دمشق بما يفتح مرحلة الصراع على العاصمة أي المرحلة الأخيرة من مشروعية إمساك النظام بالدولة حتى لو كان النظام يُحكم السيطرة على مناطق استراتيجية أخرى كمستطيل طرطوس- حمص- جسرالشغور- اللاذقية أي المستطيل الذي يُمسك بالحدود الغربية مع كل من لبنان وتركيا وبينهما الشاطئ البحري وبالطريقين الى كل من دمشق وحلب… وغيرها أقل أهمية. كما أن انتشار الهجوم الى بعض المعابر الحدودية وحلب يؤكد أكثر فكرةَ محاولةَ استفادة "الجيش الحر" والقوى الكبيرة التي تدعمه من "الإرتباك". ولربما تطوّرت الأمور نحو السعي الى جعل حلب هي بنغازي المعارضة السورية مع أن هجوم "الجيش الحر" داخل حلب يبدو ردا على تراجعه بل انسحابه من داخل دمشق.

لا يعني الإغتيال الكبير، أيُّ اغتيالٍ، بالضرورة ترتيباً مسبقا على طريق التحضير لحل سياسيٍّ بل يمكن أن يكون، خصوصا في الأزمات المعقّدة كالأزمة السورية، ترتيباً لمسرح حربي. بمعنى أن المرحلة الانتقالية هي جزء من الحرب التي يتدخل في تشكيلِ صيغِها السياسية الحلفاءُ وليس فقط الأعداء؟
لقد تحوّلت الثورة الشعبية السورية الى حرب أهلية تديرها لا شك هيئتا أركان دوليتان- إقليميتان!!… بقيادتين عُلْيَيْن أميركية وروسية. ألا يلفت الأنظارَ بعد "تفجير الروضة" إعلانُ البيت الأبيض عن "اتصال تشاور" قام به الرئيس باراك أوباما مع الرئيس فلاديمير بوتين حول الوضع السوري. ماذا يعني هذا في لغة الدول الكبرى؟  

السابق
قرى قضاء الزهراني: ندرة في الآثار والتأريخ
التالي
أشهر 8 فضائح لفنانين وفنانات العرب