هذا هو سرُّ لبنان

قبل أن يُنتخب رئيساً للجمهوريّة، مرّ الرئيس شارل حلو بدارة المصيطبة ليلقي التحيّة على الرئيس صائب سلام، فلم يجده. فتناول ورقة من علي مملوك وكتب عليها ما يبلّغ أبي تمّام كلاماً يعثر عليه بين السطور، وسبق لأبي الطيّب المتنبّي أن قاله لسيف الدولة إثر وفاة والدته:
وحالات الزمان عليك شتّى وحالك واحد في كل حال…
حصلت هذه الواقعة في عزّ هيمنة المكتب الثاني على البلد والحياة السياسيّة، وإحلال "النهج" أو الشهابيّة محل النظام والديموقراطيّة البرلمانيّة…
لو كان للرئيس حلو أن يمرّ اليوم في بيروت، أو يتنقّل بين المناطق والأقضية، وحيث ترنّ الأقداح ويطلع الضوء على الليالي الملاح، معرجاً على المهرجانات والاحتفالات وسهرات الطرب، متوقّفاً عند المسارح المفتوحة في الهواء الطلق، محيّياً شعباً لا يعرف اليأس إلى نفسه سبيلاً، لما تردّد في أن يتناول قلماً عريض الريشة ويكتب على أحد الجدران ما قال المتنبّي للحمداني، وما ردّده هو لأحد أبرز زعماء السياسة والوطنيّة في هاتيك الأيام.
لندع المتنبّي وسيف الدولة والرئيسين حلو وسلام في رحاب الآخرة، ولنلقِ نظرة موضوعيّة متأنيّة على لبنان هذه الأيام وهذه الساعات، لبنان الطرق المقطوعة، والدواليب المشتعلة، والاعتصامات والاضطرابات والاحتجاجات، وحيث لا دولة. ولا مؤسّسات. ولا حكومة. ولا وزراء. ولا مجلس نوّاب. ولا قوانين. ولا حسيب. ولا رقيب. ولا مصطافٌ أو سائح واحد. لا من بلاد العرب أوطاني. ولا من خلف البحار السبعة. ولا من دنيا الاغتراب والانتشار. ولا من يطا أرض مطار رفيق الحريري ولو على أساس الترانزيت… ساعة ساعتين.
مع ذلك، ومع كل التصريحات والسجالات والخطب والتهويلات، فإنك تخال هذا اللبنان كأنه في أحلى حالاته، وفي أفضل أيّامه وساعاته: مهرجانات. احتفالات. مسرحيّات. سهرات طرب تجعل الفجر يغنّي معها.
كأنّنا في منتصف الستّينات، أو في بداية السبعينات، ومن حولنا عالم عربي يعجّ بالحركة ويضجّ بالحياة… فيما الواقع أن الدنيا نار وبارود ودم ودمار من حولنا وحوالينا.
من بيروت إلى بعلبك، فبيت الدين، جبيل، الزوق، شمالاً جنوباً، سهلاً جبلاً…
هنا شارل أزنافور. هناك التينور العالمي خوسيه كاريراس. هنالك أوبرا "لا بوهيم". أبعد أو أقرب مطرب قدود حلبيّة. على مسافة منه مطربة تعيد أم كلثوم إلى الليالي الملاح…
إنه لا يزال يسهر ويحتفل ويرقص ويغنّي. ولا يزال كبار المبدعين يطلّون من على خشباته. أنه لا يزال لبنان ذاته الذي لا تستحقّونه كلّكم جميعكم.
هذا هو سرّ هذا اليتيم الذي لا أب له يسأم.  

السابق
لاستنقاذ سوريا من وهم التقسيم
التالي
سوريا فرصة الحريري الثالثة