rصة عدوان إسرائيلي على إهدن

بين «الكبّة الزغرتاوية» و«اللبنيّة» و«ورق العنب»، تحرص جدّتي على أن تحضّر سفرة مختلفة كل يوم أحد. تعرف أن ابنها البكر يفضّل اللبن، فلا تنسى أن تحضّر له ما يحبّ عندما يأتي إليها من بيروت. أمّا ابنها الأصغر، فلديها كل أيّام الأسبوع لكي تحضّر له ما يشتهي من يديها.
على المائدة، ننظر، نحن أحفاد العائلة، إلى خالي نظرات مفادها: «عم نضطر ناكل مجدّرة لوبية بسببك»!
مهما اختلفت أصناف الأكل، كل أيّام الآحاد متشابهة. والأحاديث التي تدور بين رجال العائلة حول السياسة متشابهة. والخلاصة التي تنتهي بها هذه الأحاديث، مهما اختلفت الآراء ووجهات النظر، هي نفسها في كل مرّة: «وضع البلد منّو منيح، بالأرض».
لم تعد هذه الجملة تخيف أحدا… إلا اللبنانيّين في بلاد الاغتراب.
نضحك على أقاربنا في أوستراليا وأميركا عندما يخبروننا بأنهم قرّروا إلغاء زيارتهم إلى لبنان، لمجرّد أنهم شاهدوا على التلفزيون بعض «المواطنين» يحرقون دواليب ويقطعون الطرق.
– «كبّروا عقلكم يا عمّي. هيدا بطرابلس وبعكّار ومدري وين. نحنا ما خصّنا!».

غالبا ما تكرّر أمي هذه النصيحة على مسمعنا، أنا وأختي ومن تواجد معنا من أولاد خالتي: «بعّدوا عن الهموم قدّ ما فيكم. ما حدا بيعرف أيمتا بيجي دوره».
لا أعرف إلى أي حدّ يمكن أن تطبّق هذه النصيحة على «هموم» الوطن. ولكن، في شهر تمّوز عام 2006، يظهر أن مجمل أهل إهدن في الشمال قرّروا تطبيق نصيحة أمي.. إلى أن أتى دورهم.
في صيف سنة 2006، كنت مع العائلة وأصدقاء لنا في رحلة سياحية إلى باريس. كان مشوارنا ليدوم شهرا كاملا لولا اندلاع حرب تمّوز التي أجبرتنا على العودة قبل أربعة أيّام، في رحلة انطلقت من مطار شارل ديغول وحطّت في مطار سوريا، ومن سوريا إلى إهدن برًّا.
في إهدن، لا يشبه وضع البلاد ما تناقلته القنوات الفرنسية. في إهدن، الناس يتابعون أشغالهم، والأطفال يحاولون التملّص من كتابة الفروض الصيفية. المطاعم تستقبل الزوار، ومن الملاهي الليلية يصدح صوت الـ«وان مان شو»:
«الله معك يا بيت صامد في الجنوب، يا لتحت سقفك ع الوفا ربّيتنا..».
تحت سقف الملهى الليلي، يغنّي الساهرون للجنوب. أمّا تحت سقف الجنوب، فيغنّي العدو الإسرائيلي لكي ينام أطفال قانا نوما أبديّا.
عندما يسأل طفل خائف عمّا يراه على التلفزيون من مجازر ومذابح، ينتبه الحاضرون إلى أنه لا يجدر بالصغار مشاهدة ما لا يقوى الكبار على تحمل رؤيته. يغيّرون المحطّة، ويطمئنون الطفل: «لا تخف يا حبيبي. هيدا مش هون. هيدا بعيد».

في خضم الحرب بين إسرائيل و«الجنوب»، يسمع في إهدن والقرى المجاورة لها صدى انفجار قريب. يحاول سكّان قلب إهدن الاتصال بسكّان «المطلّ»، الطريق الأقرب إلى القرى، للاستفسار عمّا جرى، فيجدون الإرسال معدوما في أجهزتهم الخلوية.
لا بد أن إسرائيل قصفت «قرن أيطو» الذي يبث الإرسال للمنطقة بأكملها.
هل تنسى إسرائيل الجنوب، وتلتفت إلى عروس الشمال؟!

يوم استيقظت على خبر مجزرة الحولة التي حدثت في سوريا، لم أستطع إلا أن أتخيّل طفلة صغيرة، تلبس بيجاما زهرية اللون طبعت عليها صورة أميرة شقراء، ماتت وهي تحمل في يدها سندويش لبنة.
يومها، خرجت من البيت، ورأيت امرأة تشتري الخضار وتختار لعائلتها أفضل ما في الدكان، وامرأة أخرى تضع النظّارات على عينيها وتفتح نافذة السيارة لتسلّم على صديقة لها، ثم رجلا يدخل السرايا. لا بد أن الساعة تقارب الواحدة ظهرا، لذلك يسرع الرجل لإنهاء معاملته.
فاجأني سير الحياة كما لو أن شيئا لم يحصل.
كل ينصرف إلى أشغاله.
لا أعرف إلى أي حدّ يلام أهل منطقتي وألام معهم – على الانصراف إلى أشغالهم وسهراتهم وجلساتهم، فيما يقصف الإسرائيليون جنوب لبنان الذي يبعد عنهم ساعتين أو ثلاثا كأقصى حد.
لا أعرف على من يقع اللوم أصلا. هل يقع على أهل منطقتي أم على نظام اجتماعي وسياسي حوّل مناطق ملتصقة إلى جزر متباعدة؟

يقول بهاء طاهر في روايته «حب في المنفى»:
«الآن لا يبكي على هذا أحد… الناس الآن أعقل. العواطف الآن أهدأ».  

السابق
تمارين كارديو تتحدَّى السُمنة
التالي
الخازن: حادثة الكويخات تأخذ مسارها القانوني