في طرابلس لا تنسَ هويتك في المقهى!

أنت بعثيَ؟ إذاً أنت ترتاد مقهى "الأندلس".
أنت شيوعي؟ إذاً أنت حتما من رواد "البينكي".
كان قدامى روّاد المقاهي الطرابلسية يصنّفون على أساس انتمائهم السياسي. أمّا اليوم، فتعكس المقاهي صورة وفيّة عن النمط الاستهلاكي السائد: أنت غنيّ، محدود الدخل أو متوسط الحال، هذا ما يقوله عنك مقهاك المفضّل، أو هذا ما تحاول أنت أن توحي به للآخرين. تخترق هذا الفرز الطبقي مجموعات شبابية حوّلت بعض المقاهي إلى ملتقيات للشعر والموسيقى والحوارات الأدبية، فانحرفت عن ثقافة النرجيلة واستعراض المظهر الخارجي لغاية المواعدة أو التباهي. وأيا كان الهدف، نزعة المقاومة تجمع كل مرتادي المقاهي: التحرّر من رقابة الأهل، من المحرّمات الدينية، من الضغوطات اليومية.. ومن عبثية التوترات الأمنية.

لـ"الكزدورة".. شارع

تفضّل آيا (16 سنة) مواعدة صديقها نهاية كل أسبوع "على رواق"، في أحد المقاهي الكثيرة المنتشرة عند أرصفة شارع رياض الصلح في طرابلس، أو ما يسمى بـ"الكزدورة"، كما درج على لسان طلاب الثانويات. فالمقاهي التي بدأت تجتاح هذا الشارع أصبحت المرتع الأول للشباب واليافعين الملتقين في زوايا غرامية هادئة، ومنهم من يُمعن في التأنق والظهور "بطريقة مرتبة وحلوة"، كما يقول سامر (19 سنة). فهو يعتقد أن اللقاء المباشر بالفتيات من الجنس الآخر أفضل من نسج الصداقات على "فايسبوك"، لأن "شكل الفتاة يكون طبيعيا أكثر من الصور التي تعرضها على الانترنت".
الترتيب والأجواء الراقية هو ما يجده بوب (23 سنة) أيضاّ في شارع "الكزدورة"، مفضلا ارتياد هذه المقاهي يوميا، كي يلتقي "نوعية ناس مرتبة"، تختلف عن تلك التي يصادفها في المقاهي الشعبية.
أمّا محمد (18 سنة) فيهتمّ للجو الجميل الذي يمنحه المقهى، حيث انضم إليه أربعة شباب آخرين من الشلة. لكن ما هو المقصود بعبارة "الجو الحلو"؟ يدخل رفيقه على الخط شارحا: "لأن الأهل لا يقتربون من هنا". ثم تغرق المجموعة بموجة من الضحك، من دون أن يعارضوا ما قاله رفيقهم للتو.

ميناء الشعر والحانات

على الرغم من مظاهر الرخاء المادي وبعض "النيو بورجوازية" التي يحاول مرتادو مقاهي "الكزدورة" إظهارها أو افتعالها، لا تبخل طرابلس "أم الفقير" على الباحثين عن بعض الأوقات المنعشة ببضعة آلاف من الليرات. فعلى بعد أمتار تنشد الحواس لهدير الأمواج وحيوية الريح وملحه المبعوث من شاطئ الميناء. هناك، تتجاور على طول الكورنيش أكثر من عشرة باصات صغيرة وطاولات تعتليها شمسيات مصنوعة من القش أو "الشوادر" الملونة.
كوب الليمون الطازج بألف ليرة، وبالقيمة ذاتها يباع فنجان من الشوكولا الساخن أو النسكافيه. فيما يبلغ ثمن فنجان القهوة 500 ليرة لدى تلك المقاهي، كقهوة "الباشا" وقهوة "الهمشري"، بينما يحتشد البعض بجانب المقهى على "صيدة المسا"، يقيمون مزاداً علينا على سمك لا يزال ينتفض لخروجه من الماء. ويحظى كافيه "What’s app" بكثافة الروّاد نظراً لتفرّده بمطل عند خليج البحر، حيث تفضّل منار (25 سنة) الجلوس مع خطيبها أسامة في مكان يصفه الأخير بـ"الرومانسي والبعيد عن ضجيج المدينة". وتضيف منار: "صراحة، الأسعار هنا أرخص، لكن من الممكن تحسين الشاطئ". وتحضر هنا مقارنة بين الميناء وصيدا، التي يشهد شاطئها تنظيما أكبر للمقاهي الشعبية، فـ"الشمسيات موحّدة الألوان ولا يعتدي المقهى على المساحات الرملية".
وإذا كانت الميناء متنفساً لمن يشكون ضيق ذات اليد، يبدو شارع "مينو" ملاذاً للخارجين عن الطبيعة المحافظة لمدينة طرابلس. لا يشبه "مينو" الميناء "مونو" الأشرفية بالتسمية فحسب، بل يشترك معه في وجود الحانات والملاهي الليلية المركّزة في هذه المنطقة من الميناء في قلب "حي الروم". يقصده طالبو السهر، والموسيقى الصاخبة، والمشروبات الروحية التي لا تقدمها مقاهي طرابلس.
في هذه المدينة، حيث الكل يعرف الكل، وحيث الحياة نابضة حصرا من مبادراتها الأهلية والمدنية، احتضن هذا الشارع متنزهاً شعرياً جعل من حانة "كافا مينوس" مقصداً لمحبي الأدب والفن. على الحائط المكسوّ بالألوان الترابية تبثّ أجواءً دافئة في كهف ليس ببارد، تتجاور لوحة تصوّر فيروز، مع أخرى لفرقة "البيتلز" ولوحتين لأم كلثوم والشيخ إمام، ولوحة للفنان الراحل "ماريو سابا" ابن الميناء. مساء أول أربعاء من كل شهر يتحرر "أهل الكهف" من سبات روتينهم عبر قراءات شعرية وأدبية من تأليفهم أو اختيارهم بأي لغة أحبّوا.
تفضّل مايا (26 سنة) إلقاء القصائد بالفرنسية، ولا يغيب حضور محمود درويش وأحمد مطر في كل جلسة، وكذلك أصوات من خارج لبنان، كـ"محبوبة" من إيران التي تطرب الحضور بصوتها وإلقائها قبل أن تقوم بتفسير معنى قصائدها بالانكليزية، وأيضا الناشطة المصرية دانيا غريبي، التي تشهّر قصيدتها "فحص عذرية" بالأجهزة الأمنية التي أجبرت فتيات متظاهرات على إجراء فحص للعذرية.
يتردّد محمود (24 سنة) إلى أمسيات "الكافا مينوس" ليقرأ قصائد نظمها بالعامية، ويكاد لا يسهو عن أية أمسية لما تقدّمه من "شعور عائلي يمنحه ناس ليسوا عائلتي". هو طقس اعتادته مجموعة "الكافا"، من الجرس الذي يهزه سامر، الدكتور في اللغة الانكليزية وآدابها مطلق المبادرة، إلى نصوص عمّو غابي الشيوعي المخضرم الذي ينتظره الجميع مع نصوص طريفة باللهجة المحلية يتطرق فيها إلى المجتمع الطرابلسي واللبناني بسخرية سوداء.
الحريق التخريبي الذي شبّ قبل أيام في الميناء لم يثنِ مجموعة "الكافا" عن المضيّ في أمسياتهم التي أرادوها تعبيراً مقاوماً ضدّ الرعب والاقتتال الذي ساد في مناطقهم في الفترة الماضية.

"أهواك" في عشير الداية

الأزرق نقلته سحر إلى جدران مقهاها "أهواك" الكائن في شارع عشير الداية، أحد المداخل الجنوبية لمدينة طرابلس، والذي شهد منذ أربعة أعوام طفرة مقاه ومطاعم لا تختلف في مضمون ما تقدمه ومستوى مرتاديها عن مقاهي "الكزدورة". اجتمعت أهواء سحر كلها في الموسيقى والأطعمة ذات الجودة والديكور العثماني مع نفحة من الحداثة.
في الرقعة التي لا تتجاوز ثلاثين متراً لا تسكت الموسيقى. يفضّل علي (21 سنة) من بينها الجاز، ويتردّد بوتيرة شبه يومية إلى هذا المقهى، حيث يجد "التوازن بين العراقة والحداثة"، فتجده أحيانا يلعب الشطرنج وطاولة الزهر، أو منهمكاً في تحديثات جهازه الخلوي في أحيان أخرى.
كثيرون ممن يرتادون هذا المقهى لا تفوتهم أمسيات الغنائي المتواصل أيام الآحاد، حتى ساعة متأخرة من الليل، وآخرون يفضلون الانضمام إلى نادي القراءة في "أهواك"، لمناقشة كتاب ما، بعد أن يكونوا قد اتفقوا عليه منذ ثلاثة أسابيع. هذا ما يجعل من "أهواك" مقهى فنيا نادر الوجود بين عشرات المقاهي في طرابلس، التي يهتم زبائنها بالنراجيل التي تقدمها فقط.
كتبٌ باللغات الثلاث متراصّة في مكتبة سحر، حلويات وفطائر تصنعها سيدات في منازلهن، لائحة الأصناف مكتوبة بالطبشور على اللوح، كنبات، طاولات صغيرة… لا بد أن هذه التفاصيل قد قرّبت المسافة بين ميس وفسحة التأمل التي تحتاجها بعد ساعات عمل طويلة. فأكثر ما يجذب ميس (24 سنة) طالبة الهندسة الداخلية، هو ديكور المقهى "الستايلش" وبعد أجوائه عن التكلّف الاجتماعي. حين تدخل الفتاة لا يرمقها أحد ليعرف ماذا ترتدي، أو كيف تجلس، أو ليقولوا "يا عيب الشوم"، إن وجدوها جالسة بمفردها، "لذا أعتبر هذا المقهى بيتي الثاني الذي أرتاح فيه عند فراغي من عملي اليومي".
ويستمر توالد المقاهي في شارع عشير الداية. وجوه متشابهة في الملامح، كساد في الساعات الضائعة، أحبة يتواعدون، مثقفون يتلاقون، الهاربون من المظاهر إليها يتناوبون. برغم ذلك، تظل نجاح (22 سنة) حائرة أين ستمضي وقتها، قبل أن تحسم أمرها في اتصال هاتفي: "خلص، في مطعم جديد فتح مبارح، بعد ما زرناه، تعي اليوم نروح عليه!".  

السابق
شهاداتهم من أحزابهم
التالي
تفجير في مرآب القصر العدلي بمنطقة المرجة وسط دمشق