غسان تويني: الذي كتب «نهاره» بحبر من نور

من زمان غادر غسان تويني اليوم ليستقر في الغد.
لا يسكن الأمس من كتب، على امتداد ستين سنة، بحبر من نور، وأحياناً من دم، افتتاحيات تساعد على تحديد الطريق إلى المستقبل.
ولا يغيّب الموت من انتصر على وجع الفقد، مراراً، وأكمل الطريق وقد ازداد حكمة، فتعالى على الجراح، وأسقط شهوة الانتقام، منادياً الناس إلى حماية الوطن بدم شهيده ـ شهيد «النهار» والصحافة العربية جبران تويني.
جعل غسان تويني من قلمه سيفاً يشق قلب الخطأ، وأنار الوجدان بالرأي، ولو مختلفاً عن السائد، متقبلاً الرأي الآخر من موقع المحاور لا الخصم محتفظاً بالعداء للعدو الذي لا عدو غيره: إسرائيل.
واجه الطغيان بشجاعة الفارس، وحوّل السجن إلى منصة لإدانة الجلاّد، ومنارة لكشف مكامن الخطأ ومرتكبي الخطايا.
من العرب العاربة هو، نسباً، يباهي بأهله الغساسنة اليمنيين وسائر أبناء الجزيرة والخليج لأن «قبيلته» هي الأعرق، من دون أن يسمح للكيانيين من اللبنانيين بأن يذهبوا إلى معاداة العروبة وكأنها مصدر الخطر على لبنان وهي هويته… ربما لهذا ظل يميز دائماً بين الموقف السياسي من نظام حكم ديكتاتوري وبين تأكيد الانتماء للأرض والتاريخ وحقائق الحياة.
وقف ضد الحكم العسكري، في لبنان كما في أي بلد عربي آخر، لأنه ديموقراطي بالتكوين ثم بالدور وبالموقع: فهو رجل فكر وليست الصحافة ميليشيا تغتال العقائد والأفكار! وكيف يستطيع المتعصب ادعاء الوطنية إذا ما جعلها كيانية مغلقة على الاخوة منفتحة على الأجنبي، متسامحة مع «العدو» شديدة على شريك الوجود والمصير.
ولقد عاش غسان تويني عمره في قلب المأساة، واستطاع الانتصار على موت الأب وهو غائب عن الوطن، وموت الابن وهو غائب عنه وموت الابنة قبل أن تكمل الدورة الأولى من حياتها، وعايش الموت البطيء مع الحبيبة ـ الزوجة محوّلاً وجعه إلى جهد خلاّق لحماية الناس من الوجع، ثم كان الانتصار الأعظم حين حوّل اغتيال «جبرانه» إلى صرخة تنبيه إلى خطورة الغرق في غياهب الثأر والانتقام، بينما مصير الوطن معلق على حافة المجهول.
عاش غسان تويني الإنسان مأساة مفتوحة، ولكنه انتصر على مشاعره الشخصية كإبن وأب وزوج بقوة إيمانه بوطنه، بأرضه، بشعبه الذي كان يراه على شفا جرف دموي يتهدده في وجوده. وكان عزاؤه في سلاحه الأمضى: الكلمة. الرأي. الحوار. العودة إلى البديهيات.
لقد نشأت أجيال على افتتاحيات غسان تويني وخطبه ومحاضراته في الداخل كما في جامعات أجنبية وأمام محافل دولية لعل الأشهر بينها موقفه المشهود في مجلس الأمن الدولي وهو يحاول استنقاذ وطنه الصغير من براثن الصراع بين الدول، بعد الاجتياح الإسرائيلي (الأول!!).
ويخطئ من يتعامل مع غسان تويني كصحافي لبناني فقط، أو كصاحب رأي لا يعني إلا اللبنانيين وحدهم.
لقد نجح غسان تويني في أن يكون صاحب مدرسة في الصحافة العربية. ولقد أثّرت «النهار» كمدرسة صحافية في العديد من المؤسسات والدور الصحافية، مشرقاً ومغرباً… بل إن تأثيرها السياسي قد ارتكز في جزء أساسي منه إلى نجاحها المهني. وقد عجز كثيرون عن تقليدها ليس فقط لأن غسان تويني، الصحافي، أكفأ منهم مهنياً، وأشجع منهم في التعبير عن رأيه، بل أولاً وأساساً لأن بلادهم لا تتمتع بمناخ من الحرية يسمح بإطلاق الكلام قاطعاً كالسيف، ولأن قواعد
ممارسة المهنة تخضع للرقابة التي تقوم على حماية ديكتاتورية الطاغية. وكثيراً ما كان قلم غسان تويني سيفاً.
بل إن غسان تويني نفسه كان يؤمن بأن الصحافة اللبنانية تكون عربية أو لا تكون صحافة بأي معنى ومن هنا كانت «النهار» السباقة إلى اعتماد موفدين من محرريها إلى مواقع الأحداث في الوطن العربي، بل إنها فتحــت أبواب مكاتبها لكل القــادة والمسؤولين العرب الهاربين من ظلم حكامهم في أوطانهم.. فما قيمة أن تنشر مطــبوعات جهويــة أو كيانية ضيقة بينما المدى السياسي والفكري، الاقتصادي والاجتماعي والأمني، عربي حكماً. وبين كفاءات غسان تويني أنه شرّع باب «النهار» أمام أقلام مبدعة أبرزها ميشال أبو جودة.
ربما لهذا، في جملة أسباب أخرى، لا تصلح صيغة للماضي للحديث عن الصحافة في لبنان، وبالتحديد عن غسان تويني. فالصحافي ليس راوية، وليس مجرد شاهد، ليس ناقلاً فحسب، وليس آلة تصوير. إنه الأذن والعين والعقل والوجدان معاً. والنجاح رهن بقدر ما يستقر الاسم في ذاكرة الناس ويؤثر في قرارهم وموقفهم وينير الطريق أمامهم بالمعلومات ومن ثم الرأي، من دون تعصب يغلق العقل أو غرض يشوّه القصد ويضلل الناس بدل أن ينفعهم في يومهم وفي غدهم.
[ [ [
الصحافة جميعاً في حداد.
وفي ما يعنيني شخصياً فإن بين أسباب اعتزازي بمهنتي أن قدري قد أتاح لي أن أصنّف زميلاً معاصراً لغسان تويني، ثم أن تشاء لي الأقدار أن أتسنّم موقع المنافس لغسان تويني في «النهار» لهذا فأحزاني يعقوبية.
وليكن رحيل غسان تويني عن دنيانا حافزاً لحماية الصحافة في لبنان، وهي التي حوّلها غسان تويني و«النهار» إلى منارة يشع نورها في الوطن العربي جميعاً.   

السابق
عدوان: طرح نصرالله المؤتمر التأسيسي خطير أنما تحدثه ان لا ملاذ للجميع إلا بالدولة إيجابي
التالي
كيف ينظر أطراف ثلاثي الأكثرية إلى استنقاذ الحكومة لنفسها ولطاولة الحوار؟