السلم الأهلي المتقطع

لم تكن أحداث طرابلس توتراً عابراً كي تعالج بتدابير أمنية بسيطة وخجولة. منذ عقود نشأت أزمة في العلاقة بين أهل المدينة الواحدة ولا سيما بين جبل محسن وباب التبانة. تحوّل جبل محسن إلى قوة احتياط في الإدارة السورية للمدينة، وصار باب التبانة المتراس الأول لمواجهة الإدارة التسلّطية السورية.

خرجت القوات السورية من لبنان وظلت شهوتها قوية للإمساك بالمدينة كما غيرها من المناطق اللبنانية. تصرّف جزء كبير من اللبنانيين كما لو أنهم يريدون تحرير لبنان من النفوذ السوري وليس فقط من السلطة السورية. شجّعت الأزمة السورية هؤلاء على التورط في مشروع تغيير السلطة أو المشاركة في هذا التغيير. عززت هذا المشروع سياسات إقليمية وغذت مقوماته سعياً إلى جعل طرابلس والشمال جزءاً من التوازن السوري الداخلي. لم يسبق للعلويين أن شكلوا خطراً أو تحدياً لأحد. هم يدفعون ضريبة إلحاقهم بسياسات النظام السوري وعليهم الغرم في ذلك. أما باب التبانة فهي أيضاً تدفع ضريبة موقعها الجغرافي وتوظيفها كمتراس متقدم ضد النفوذ السوري وعناصره البشرية. التدابير التي اتخذتها الحكومة لا ترقى إلى مستوى المشكلة ولن تكون مانعة لنزاع مسلح حين يقرر أي من الطرفين فتح المواجهة. المسألة أن السلاح موجود بكثافة ولا تملك الدولة أن تنزع شرعيته الطائفية، وهي تتخلى عن دورها الأساسي طوعاً قبل أن نتحدث عن قدرتها المادية على القيام بهذا الدور.

تدرك القوى السياسية وهي تعلن ذلك ان لا بديل من الدولة سبيلاً لحل المشكلات، لكن ما تضمره شيء آخر في بناء الدولة.
في الواقع كانت لدينا دولة من نمط معيّن وطبيعة محددة قبل الحرب ومع ذلك انهارت وتفككت واستحال إحياؤها. ولا زالت لدينا مؤسسات وأجهزة وكيان جغرافي ورموز ودستور وقوانين، لكنها معطّلة وعاجزة عن إدارة المجتمع على النحو الذي يؤمن الاستقرار والولاء والرضا والارتياح.
ما نشأ من أوضاع خارج سلطة الدولة أو ما أخذ منها أو تمت مشاركتها فيه أو ما كان سبباً في ضعفها وانهيارها يجب أن يعالج بعد ان زالت مبرراته أو بعد أن تبيّن عقمه وفشله في الحلول مكانها. هناك جملة أسباب تجعل اللبنانيين في حالة صراع واقتتال أحياناً، بمعزل عن شرعية هذه الأسباب وبمعزل عن إمكان معالجتها بواسطة العنف. خلاصة الأمر أن الجماعات ليست مطمئنة إلى حرياتها وحقوقها ومصالحها وليس هناك دولة بهذا المعنى توفر الضمانات اللازمة لأي فريق أو جماعة. كل جماعة مضطرة لأن تأخذ على عاتقها حماية أمنها ووجودها وما تعتقد أنه خير لها ومصلحة وخيار.

ليست الطائفية مفتعلة افتعالاً أو مجرد ولاء أعمى أو عيباً من العيوب في الوعي أو الأخلاق. ان الطائفية عصبية يتم بناؤها على مزيج من المصالح المادية ومن التحام القرابة والنسب والثقافة الأكثر انسجاماً بين عناصرها. بين الطائفية والدولة علاقة جدلية وعضوية بحيث تقوى الواحدة من ضعف الأخرى والعكس صحيح. غير أن الدولة ليست السلطة وليست الشراكة القائمة على الغلبة، وليست التوافقية القائمة على التوازنات السياسية والاجتماعية المتحركة. بل هي المصلحة العامة والمجال العام الذي يتساوى فيه الناس بالحقوق والواجبات لحفظ الاجتماع السياسي. تجذّرت الطائفية في أي مكان من العالم العربي، في بعدها الثقافي والسياسي ثم الاجتماعي. فمرّة تكون طائفية محرومين ومرة طائفية أصحاب امتيازات. أما المجتمع فهو ضحية «الفاشيات الطائفية» التي تحاول إيجاد مخارج وهمية في السياق الطائفي وليس في السياق الإنساني الحر.

دخل لبنان في شكل من أشكال اللامركزية الأمنية. الأمن بالتراضي أو بالتوافق بين الجماعات المسلحة. هذه الدولة باتت أضعف الفرقاء على الأرض. ليس الرهان أن يتقسّم البلد بل هل يمكن له أن يتوحد في ظل المشاريع السياسية العابرة حدوده والمتنافرة في الصراع على السلطة جراء الشعور بالقوة أو بالحرمان والتهميش. فإذا كنا بالفعل لا نريد تكرار الحرب الأهلية وندرك خطورتها ومآسيها وعدم جدواها في صياغة البلد كما نشتهي ونريد فما علينا إلا أن تخرج عن نطاق السيطرة إما بتداعياتها وإما بفعل المؤثرات الخارجية. لدينا الآن ما يكفي من التراكمات والأزمات والاحتقان الطائفي والمذهبي ومن حولنا تضغط النزاعات الإقليمية وتعمل على إدراجنا في ساحتها. فلا نحن نحفظ حدودنا بالمعنى السياسي والأمني ولا نحن نحل مشكلاتنا الداخلية ونكابر في تجاهل أسبابها أو تحوير تلك الأسباب.

لن يُعدم اللبنانيون إيجاد صيغة سياسية لعيشهم المشترك طالما ما زلنا نعرّفهم بصفتهم جماعات عدة متجاورة، إذا توفرت لديهم الرغبة الصادقة في هذا العيش من دون هيمنة ومن دون إكراه. أبسط الأمور أن تعترف هذه الجماعات بأنها لا تملك القدرة أو الشرعية بأن تفرض هويتها وبالتالي مشروعها على الآخرين. وليس من مخرج إلا في الدولة المدنية اللاطائفية أو في الصيغة الفدرالية التي يتنكّر لها معظم اللبنانيين ويتصرفون باتجاه تعزيز حظوظها ومقوماتها. بل إن الفدرالية صارت أكثر واقعية من السعي إلى دولة مركزية تتنازعها القوى الطائفية المعززة بالثقافة الدينية والمذهبية. إن مصداقية «خطاب الدولة» بات يفترض مبادرات ملموسة محددة متكاملة تكشف بالضبط أي لبنان وأي دولة نريد وأي عقد وطني واجتماعي ينظم علاقة المواطنين بدولتهم وببعضهم الآخر.   

السابق
السفير: الحكومة في سنة التعطيل الأولى: تسوية للإنفاق!
التالي
النهار: 4 وزراء خارجية أوروبيون إلى بيروت دعماً للإستقرار والهيئات الإقتصادية رفعت الصوت البلد مش ماشي