الركاكة المذهلة لقاض مصريٍ

القسم الاول من هذا المقال يقيِّم الأداء اللغوي والصياغة المضمونية لرئيس محكمة جنايات القاهرة خلال تلاوته المقدمة السياسية التمهيدية للحكم على الرئيس المصري السابق حسني مبارك ونجليه ومعاونيه. أما القسم الثاني فيتناول الأحكام الصادرة بحد ذاتها ويحلِّل التوازن السياسي والشخصي الذي سعت اليه المؤسسةُ العسكرية عبر هذه الأحكام.

– 1 –
كان أداء رئيس المحكمة وهو يتلو المقدمة التمهيدية الطويلة التي سبقت نص الحكم أداءً فضائحياً. فلم اكن اتصور أن قاضياً مصرياً كبيراً يمكن أن يكون جاهلاً الى هذا الحد بقواعد النحو فيخطئ بشكلٍ كثيف ومتمادٍ بالضمة والفتحة والكسرة الى حدٍ مزعِجٍ للغاية لأنه في معظم المقاطع رفعَ المنصوبَ أو المكسورَ ونصبَ المرفوعَ او المكسورَ حتى بدت القراءة أكثر من مجرد أخطاءٍ نحوية في لفْظ النص وانما ركاكة لا تليق، ليس فقط بقاضٍ كبير في موقع رئاسة محكمة بأهمية المحكمة الجنائية التي تنظر ببعض أكثر القضايا إثارةً في تاريخ مصر بل التي تدير واحدة من المحاكمات التي سيذكرها القرن الحادي والعشرون طويلاً على المستوى العالمي، وهي محاكمة الرئيس المصري السابق حسني مبارك. كان الأداء اللغوي كارثيا الى درجة انه لا يليق بأي قاضٍ مبتدئ ولا حتى بأي متعلّم ناطقٍ وعاملٍ بلغة الضاد في موقع مسؤولية.

كان المشهد في تلك اللحظات من يوم السبت المنصرم في محكمة جنايات القاهرة ينم عن ركاكة لا يمكن التسامح معها الى حد تجعلك تشكّك بمستوى العملية القضائية الجارية برمتها.
لكن مع كل ذلك كان يمكن لمحتوى الكلام المتلو ان يعدّل من هذا الانطباع عن ركاكة الكفاءة النحوية لشخص القاضي الذي كان محاطاً بالمستشارَيْن القاضيين عضوي المحكمة التي غصّت قاعتها بالمحامين وقوى الأمن فيما المحكومون جميعا في القفصين وحسني مبارك ممدَّدٌ كالعادة على السرير الطبي وراء ولديه علاء وجمال اللذين هذه المرة لم يستطيعا بجسديهما الفارعين منع الكاميرات من الوصول الى وجهه. … لكن محتوى المقدمة التمهيدية بدا أكثر فضائحية من الأداء اللفظي نفسه، إذْ تضمنت (المقدمة) سيلاً من الكلام الإنشائي الفارغ الذي اعتقد كاتبُه، أكان رئيسَ المحكمة نفسَه أم أحدَ العضوين أم أيَّ شخص آخر لا نعرفه، أنه مرافعةٌ في الأدب السياسي لتبيان أهمية وتاريخية الثورة التي حصلت، فإذا بالنص عبارة عن إنشاء من الدرجة الثالثة بل الخامسة مليءٍ بالكلام الذي لا يليق برصانة الحدث الثوري من حيث عدم الدقة بل عدم الموهبة و الفقر في التعبير عن المُراد والمناسبة في المقام القضائي الرفيع … وأين؟ في بلد اللغة والتقاليد والاجتهادات الرفيعة في المجال القضائي وهو مصر.
سأنقل حرفيا مقطعين فقط من المقدمة – وهي أطول كَمّاً من نص الحكم – أراهما كافيين لإعطاء فكرة عن الركاكة المضمونية التي لا تُغتَفر في مقام قضائي وأعتبرهما من حيث المستوى فضيحة للنظام القضائي المصري بكامله. وأريد أن ألفت النظر هنا الى أن كل ما أكتبه هنا لا علاقة له بطبيعة الأحكام الصادرة ضد شخصيات النظام المصري السابق وإنما بمستوى الأداء اللفظي وقيمة الصياغة النصية.
المقطعان هما التاليان، ويستطيع القارئ أن يعود الى كامل المقدمة على موقع صحيفة "الأهرام" يوم امس الأول الأحد او العودة لـ"يوتيوب" الجلسة:
"ولا شك فإنه مع بزوغ صباح يوم الثلثاء الخامس والعشرين من يناير عام 2011 أطلت على مصر شمس فجر جديد لم تره من قبل أشعته بيضاء حسناء وضاءة تلوح لشعب مصر العظيم بأمل طال انتظاره ليتحقق مع نفاذ أشعتها شعاع وضاح وهواء نقي زالت عنه الشوائب العالقة فتنفس الشعب الزكي الصعداء بعد طول كابوس ليل مظلم ولكنه أخلد لثلاثين عاما من ظلام دامس حالك أسود أسود أسود، اسوداد ليلة شتاء قارس بلا أمل ولا رجاء أن ينقشع عنها إلى صباح مشرق بضياء ونضارة وحياة".

"وهكذا كانت إرادة الله في علاه إذ أوحى إلى شعب مصر وأبنائها البواسل الأشداء تحفهم ملائكة الحق سبحانه وتعالى لا يطالبون برغد العيش وعلياء الدنيا، بل يطالبون ساستهم وحكامهم ممن تربعوا علي عرش النعم والثراء والسلطة أن يوفروا لهم لقمة العيش. يطالبون بمن يطعمهم من جوع ويسد رمقهم ويطفئ ظمأهم بشربة ماء نقية ويسكنهم بمسكن يلملم أسرهم وأبناء وطنهم من عفن العشوائيات وانعدام آدميتهم بعد أن افترشوا الأرض وتلحفوا بالسماء وشربوا من مياه المستنقعات وفرصة عمل لعاطلين بالمئات والملايين تدر عليهم رزقا كريما حلالا يكفي بالكاد لسد حاجتهم وتوفير قوت يومهم وانتشالهم من هاوية الفقر السحيق إلى الحد اللائق بإنسانيتهم سالمين سالمين منادين سلمية سلمية سلمية ملء أفواههم حين كانت بطونهم خواء وقواهم لا تقوى على المناضلة والجهاد صارخين مستصرخين ارحمونا يرحمكم الله انقذونا أغيثونا انتشلونا من عذاب الفقر وهوان النفس وقد كواهم تردي حال بلدهم ووطنهم مصر العزيزة عليهم اجتماعيا وثقافيا واقتصاديا وتعليميا وأمنيا وانحدرت بها الحال إلى أدنى الدرجات بين الأمم وهي التي كانت شامخة عالية يشار إليها بالبنان مطمع الغزاة والمستعمرين لموقعها وخيراتها فأصبحت تتوارى خلف أقل وأبسط الدول المتخلفة في العالم الثالث".
هل هذا كلام قضائي أو أدبٌ سياسي؟!!
… لا هذا ولا ذاك. فمن قال إن الأدب السياسي يتنافى مع الدقة والتعابير التي يمكن أن تجمع في مجال الأحكام أو المرافعات – والمقدمة كانت "مرافعة" رئاسة المحكمة في تبرير الثورة – بين إبداع الصياغة ورصانة التعبير؟ وأنا هنا أغض النظر عن القيم النبيلة التي يحملها النص لأن الصيغ التي جاءت بها كانت ركيكة، وتشير بصورةٍ ما ولكن واضحة إلى وجود مشكلة تردٍ في بعض قطاعات القضاء المصري… قضاء الراحل الدكتور السنهوري والدكتور طارق البشري الذي نتمنى له طول العمر ومعهما على مدى جيلين فقهاء شجعان ومحترمون. لكن يبدو أن القمع المديد لاستقلالية القضاء منذ أوائل الخمسينات قد ساهم في هذا التردي المحتمل أن يكون بنيوياً حتى في بلدٍ كمصر تثير ثورته الأخيرة الكبيرة الإعجاب في مدى عمق ثقافتها السلمية واحتكامها الاساسي الى مرجعية القانون في ذروة سعيها للتغيير.

– 2 –
النقطة الثانية الرئيسية في هذا المقال هي تناولُ مضمون الأحكام الصادرة. وهنا نصبح، بمعزل عن الأداء والصياغة، أمام عملية سياسية دقيقة صُنعتْ على الأرجح خارج المحكمة ونفّذتها هيئتُها.
كيف؟
فالأحكام بُنِيتْ على التوازن التالي الذي اعتقد واضعوها في جهةٍ عليا رسمية أن بإمكانه أن يستوعب أمرين متناقضين. فمن جهة تمّ الحكم بإدانة حسني مبارك في المشاركة بقتل المتظاهرين ومعه الحبيب العادلي (وليس معاونيه السابقين) عبر السجن المؤبد لكليهما. وهذا لإرضاء المسار الثوري. بينما من جهة مقابلة جرت تبرئة نجلي مبارك ومبارك نفسه من تهم الفساد بسبب "مضي المدة المسقِطة للدعوى…". وهكذا في الحصيلة يكون واضعو الحكم قد أرادوا إنقاذ نجلي مبارك الشابين (وربما إخراجهما لاحقا من مصر) على اعتبار أنه من الصعب بأي صورة إنقاذ الأب المشارف على الموت الجسدي والميت بشكلٍ نهائي سياسيا.
وهذا أفضل ما يمكن فعلُه من وجهة نظر قادة المؤسسة العسكرية لرئيسهم ورفيقهم السابق، وفي توقيت ما بعد الجولة الأولى من الانتخابات الرئاسية التي أظهرت وجود كتلة شعبية كبيرة مع المرشح الضابط السابق أحمد شفيق جعلت من الممكن الإتكاء على شرعية اجتماعية سياسية ما.
هذا هو "التوازن" السياسي الذي يبدو أن الاحكام الصادرة انطوت عليه أو سعت إليه: التضحية بالأب المتهاوي صحيا ومعنويا بشكل نهائي والوفاء له بإنقاذ النجلين.
لكن في ردود الفعل المباشرة لا تزال المعركة بل المعارك مفتوحة في مجتمع يتحرك بكامله وعلى كل المستويات إنما في ظل ثقافة سلمية عميقة.  

السابق
عملاء ونقطة على السطر
التالي
حبيش: لجعل طرابلس منزوعة السلاح وكشف الغطاء عن الجميع