عام على هجرة الحريري

في الذكرى السنوية الأولى لـ «هجرة» الرئيس سعد الحريري من لبنان، يجري مسؤولون من تيار المستقبل جردة حساب للأوضاع التي آل إليها الواقع الشعبي والعلاقات الخاجية للشيخ سعد وتيار المستقبل. نتيجة هذه الجردة تبدأ بالإحباط، وتمر بتفوق الوكيل الرئيس فؤاد السنيورة على الأصيل في كل شيء، لتصل إلى بحث الجمهور عن قائد
المشهد الأول: عرض الرئيس سعد الحريري للبيع، عقاراً في منطقة البربير. يقول بعض من تربطهم علاقة وثيقة بالسفارة السعودية في بيروت إن هذا العقار هو من ضمن مجموعة من العقارات التي عرضت السعودية إقامة مساكن عليها تُخصص لأهالي بيروت. المفاجأة ليست في أصل بيع العقار، الذي يُعدّ من «فتات» ما تحويه «محفظة» الحريري، بل في أسماء من تقدموا لشرائه: رئيس النادي الرياضي هشام جارودي، و«متعهد الجمهورية» رجل الأعمال جهاد العرب (شقيق رئيس جهاز الحماية الشخصية للحريري)، والرئيس السابق لمجلس إدارة تلفزيون المستقبل نديم المنلا. الثلاثة بنوا ثرواتهم أو ضخّموها في ظل عباءة آل الحريري. في النهاية، رست العملية على العرب، بنحو 37 مليون دولار.

المشهد الثاني: بداية الشهر الماضي، عُيّنت السيدة سلوى السنيورة، شقيقة الرئيس فؤاد السنيورة، على رأس مؤسسة «رفيق الحريري». يعلق أحد المقربين من الرئيس سعد الحريري بالقول: «اكتمل نقل الحريري بزعرور السنيورة».
المشهد الثالث: يطل نائب مستقبلي بارز على صفحته على فايسبوك لمحاورة «أصدقائه». يعاجله شاب من عائلة بقاعية قائلاً: «لم أعد كسنّي اقتنع بأنكم في تيار المستقبل تمثلونني. من يمثلنا اليوم اثنان: صالح المشنوق والشيخ الأسير». الكلام ذاته يردده عشرات الشبان والشابات المناصرون لتيار المسقبل، في الطريق الجديدة أو البقاع الأوسط أو طرابلس، وحتى في صيدا. تُسمع العبارة في المقابلات المباشرة مع هؤلاء، وتُقرأ على صفحات التواصل الاجتماعي.
المشهد الرابع: إمام مسجد بلال بن رباح في صيدا، الشيخ أحمد الأسير، يهاجم الرئيس سعد الحريري شخصياً، ويتهمه بالفشل في كل شيء، حتى في لعب «السكي». قالها علناً في المسجد، ثم كررها في مقابلة متلفزة على شاشة المؤسسة اللبنانية للإرسال. لم يخرج من مناصري المستقبل من يعاتب الأسير، ولو افتراضياً.
المشهد الخامس: قبل مهرجان تيار المستقبل في 6 أيار، التقى معارض سوري في بيروت ناشطاً «حريريّاً». سأل الأول الثاني: من سيتحدّث في المهرجان؟ رد الناشط اللبناني بالقول: الرئيس الحريري، فعلق الناشط الدمشقي: «هذا إحباط للثورة».
المشهد السادس: شقيق الموقوف شادي المولوي يقول إن عدم الإفراج عن شقيقه سيؤدي إلى تصعيد في طرابلس. وعندما سئل عن شكل هذا التصعيد، أجاب: سنتشاور مع مشايخ المدينة. لم يأتِ على ذكر تيار المستقبل، ولا مسؤوليه. وبالتأكيد، لم يعر أي اهتمام للحريري. والأخير، كان قد أصدر بياناً في اليوم الأول من الاشتباكات، من دون أن يترك البيان «التويتري» أي صدى في عاصمة الشمال، لكن عدم اكتراث الشارع ببيان الحريري، لم يلغِ تعامل القيادة السياسية معه كمرجعية رئيسية للطائفة السنية. فالجيش لم يدخل طرابلس إلا بعد حصوله على تغطية «سنية» رسمية من الرئيس نجيب ميقاتي، وعلى مثيلتها الشعبية من الرئيس سعد الحريري.
ما تقدم يلخص إلى حد بعيد حالة تيار المستقبل ورئيسه الغائب عن لبنان منذ عام وعدة أيام. حينذاك، حزم الشيخ سعد حقائبه من دون توديع الأحبة والأصدقاء. لم يقل إنه مهاجر، ولا حدد موعداً للعودة. وحتى اليوم، لم يذكر صراحة أسباب غيابه الطويل عن لبنان. فلا هو مرهون ببقاء النظام السوري، ولا بسلاح حزب الله، ولا بوضعه المالي الذي تعثّر خلال السنوات الماضية، ولا بوضعه الصحي بعدما انكسرت رجله خلال ممارسته التزلج في جبال الألب. تحدّث مرة بطريقة ضبابية عن أسباب أمنية، لكنّ مقربين منه يعيدون سفره الدائم إلى أسباب مالية، قبل أن يلجأ آخرون من فريقه إلى الحديث عن حالته الصحية للقول إنه سيعود إلى وادي أبو جميل فور تعافيه من إصابة الألب. في المحصلة، ليس للحريري موعد واضح للعودة. يبدو في ذلك أقرب الى المفقود منه إلى المهاجر.
خلال هذا العام، تغيّر الكثير في وضع الحريري، كزعيم وقائد، بحسب مقربين منه. ورغم أنه لا يزال يتمتع بالقدرة التجييرية ذاتها في الانتخابات، بحسب الإحصاءات التي أجراها أكثر من مركز دراسات، فإن صورته في أذهان جمهوره تغيرت. كثر منهم صاروا يتجرأون على انتقاده بطريقة لاذعة. بعد خطابه الأخير الذي بُث في ساحة الشهداء، كانت إحدى الناشطات في التيار تدخل مطعماً في وسط العاصمة، ثم تسأل أحد النواب: هل ما سمعتُه (الخطاب) حقيقة أم خيال؟ تحولت الجلسة التي حضرها نواب مستقبليون «منضبطون» إلى محاكمة للحريري ولأدائه «الضعيف» و«غير الواضح». هذا الأداء «الملتبس» ـــــ والوصف لمقربين من الحريري وناشطين في تياره ـــــ يجعل جزءاً كبيراً من الجمهور في حالة بحث دائم عن قائد. تارة يجدونه في رئيس حزب القوات سمير جعجع، وأخرى في الشيخ الأسير، وصولاً إلى صالح المشنوق ومن يحملون خطاب هؤلاء التصعيدي والواضح، وخصوصاً تجاه حزب الله والنظام السوري. وبالمناسبة، فإن الحريري، ودائماً على ذمة مقربين منه وناشطين في تياره، بدأ يتحسس من هذا الواقع، لذلك وضع «فيتو» على كلمات سياسيي الصف الأول في مهرجان 14 آذار الذي أقيم في البيال، لأنه لا يريد أن يظهر جعجع الحاضر كقائد لـ «ثوار الأرز» على حساب الحريري الغائب.
وفي تيار المستقبل، بدا الرئيس الغائب، بحسب أحد أعضاء الدائرة المقربة منه، في صورة الشخص المحبوب «المعتوب عليه» من جمهوره «الذي زاد عطفه عليه كشخص غير قادر على تحمّل المسؤولية». وهذه الصورة ينبغي أن تُستخدَم في الانتخابات النيابية. أما الإدارة السياسية، فمتروكة، بسبب غياب الأصيل، في يد الرئيس السنيورة. والأخير هو الذي يسيّر شؤون الكتلة النيابية ويتواصل مع الحلفاء، ويفاوضهم في شتى القضايا: من الوثائق التي يُكثر فريق 14 آذار منها، وصولاً إلى المساومات على الحصص النيابية، مروراً بالصيغ المقترحة لقانون الانتخابات. «وكالة» السنيورة تمدّدت، فباتت تشمل بعض العلاقات الخارجية، وخصوصاً في مصر وتركيا، وجزء من السعودية. أما السقف السياسي في التيار، فمتروك بفعل «الأمر الواقع» للنائب نهاد المشنوق، الذي اقترح حتى اليوم اكثر من عنوان سياسي تبنّاه ــــ بعد تمنّع ــــ الحريري الغائب والتيار. وأبرز هذه العناوين الموقف من الأزمة في سوريا واقتراح حكومة التكنوقراط. يبقى تيار المستقبل، كجسم تنظيمي، الذي تأثر بغياب المال أكثر من تأثره بغياب الرئيس. وفي ظل الترهل الذي صار مزمناً لدى التيار الفتيّ، لم يعد أمام مسؤوليه سوى اللجوء إلى الخطابة السياسية، بدل العمل بين الناس.
خارجياً، ليس تأثير غياب الحريري عن مصدر قوته بأقل سوءاً من تأثيره على الداخل المستقبلي. ويمكن إيراد مثلين بارزين يتندر بهما بعض المقربين منه أيضاً. في تركيا، راهنت الإدارة السياسية لرجب طيب أردوزغان على الحريري قبل ترؤسه الحكومة وخلال وجوده في السرايا. ووصل هذا الرهان إلى حد المغامرة التركية، إلى جانب قطر، في المبادرة التي تلت فشل الـ«سين سين» بداية عام 2011. أما اليوم، بعد كل ما جرى على الساحة اللبنانية، ورغم تعبير أردوغان عن تأييده لرأي الشيخ سعد بالرئيس السوري بشار الأسد، فلم يتورع أحد أعضاء فريق عمل رئيس الوزراء التركي عن القول في جلسة خاصة: «أخطأنا بالرهان على فشل كسعد الحريري». أما في المملكة العربية السعودية، فثمة ما تغير. يقول مقربون من سفارة المملكة إن في الرياض لجنة تشرف على الملف اللبناني، تضم: وزير الخارجية، ممثلاً عن وزير الداخلية، عبد العزيز بن عبد الله (ابن الملك)، السفير السعودي الحالي في بيروت، والسفير السابق الوزير عبد العزيز خوجة، وممثلاً عن الاستخبارات. وفي بعض الأحيان، يحضر رئيس مجلس الأمن القومي بندر بن سلطان، أو من ينوب عنه. هذه اللجنة، تقدم توصياتها إلى الملك السعودي بشأن الملف اللبناني عموماً، وشؤون الطائفة السنية خصوصاً. ويقول أحد عارفي معظم أعضاء اللجنة إن أحداً من هؤلاء لا يكن الود للحريري، ولا يثق بقدرته على تدبر أمور لبنان والطائفة. وترد إلى هؤلاء عشرات التقارير من «مصادرهم» في لبنان، غالبيتها يبث الشكوى من الحريري ومن أدائه، وغيابه. وعبّر أكثر من عضو في هذه اللجنة أمام سياسيين لبنانيين، منذ منتصف العام الماضي، عن رغبة السعودية في عودة رئيس تيار المستقبل إلى بيروت، مؤكدين أنه يرفض ذلك. ويتلطى الحريري خلف غياب القرار الملكي برجوعه إلى بلاده. في تلك اللجنة، ثمة ثقة كبيرة بإدارة السنيورة، الذي يؤكد من يعرفون علاقته بالرياض أنه ربما يكون الوحيد الذي لا يقول بحق الشيخ سعد ما يسيء إلى صورة الأخير في بلاد نجد والحجاز، لكن الجديد أن هؤلاء المسؤولين طلبوا من أكثر من سياسي لبناني تقديم اقتراحات خطية حول الإدارة السياسية الفضلى للشأن اللبناني. وبالطبع لا يعني ذلك أن الرياض باتت في وارد التخلي عن الحريري، وخصوصاً بعدما أعادت إليه شيئاً من توازنه المالي. فثمة واقع يصعب تجاوزه، هو الواقع الشعبي الذي لا يزال ملتفاً حول ابن رفيق الحريري، رغم «التمرّد السلفي» الأخير في طرابلس. ويؤكد مسؤولون مستقبليون أن ما «أنقذنا في أزمتنا المالية وهجرة الشيخ سعد، هو غياب شخصية سنية مبادرة إلى العمل الرسمي والشعبي، ومستعدة لدفع مال يعوّض للناس ما خسروه منا».

السابق
النقاط السِتّ التي سجّلتها دمشق في مصلحتها
التالي
المضبطة السورية بحق لبنان.. ماذا تتضمن ؟!