النكبة..

رافقت النكبة أجيالاً فلسطينية وعربية عدّة، وشكّلت الجزء الأبرز من مكوّنات وعيها، والجزء الأهم من ثقافتها في السياسة والأخلاق والدين والجغرافيا والتاريخ، بل هي بالتأكيد، حدّدت مصائر دول وشعوب في المنطقة كما لم يفعل أي معطى آخر، لا وطنياً داخلياً أياً كان نوعه، ولا خارجياً أياً كانت طبيعته وهويته.
ومثلها مثل الجبال والبحار والمحيطات والإرث الخالد لحضارات سالفة بقيت شواهدها عصيّة على الزمان ونوباته وتقلّباته، ظلّت النكبة وستظل لأجيال آتية، عنواناً رديفاً لأكبر عملية سطو ولصوصية في العالم الحديث، ودلالة عزّ نظيرها ومثيلها، الى الجريمة الجماعية والصلف التام والاستبداد العاري، ثم دلالة الى ذلك القهر الموشّى بحداثة سافلة تُعلّق أخلاقها على الرفّ، وتبيع القهر كسلعة معدّة للاستهلاك الخارجي.

استند الإسرائيليون والصهيونيون الأوائل في سعيهم اللصوصي، الى ذلك الإرث الاستعماري الاستيطاني الغربي الأول الذي بنى حيثياته على حساب شعوب أصلية من أول الأرض الى آخرها.. أكثر مما استندوا الى نصّ ديني ملتبس وخرافة تعبوية آتية من تاريخ سحيق، وعملوا بموجب قوانين القادر والمنتصر العديم الأخلاق بعد الحرب العالمية الثانية، وليس بموجب أي نصّ عدالي أو أخلاقي أو حداثي أو مدني.. زادت مرتبة "الضحية" على تلك المعطيات الأصلية وقرّبت أصحابها أميالاً إضافية من أهدافهم، لكن الأساس المتين كان ولا يزال مدكوكاً ومصبوباً في قوالب وثقافات قطّاع الطرق واللصوص و"الأنانية الجماعية" الفريدة من نوعها.

غيّرت السنوات الـ64 الماضية معظم الجغرافيا الفلسطينية، وغيّرت السياسة والوقائع والحسابات وموازين الحديد والنار والإمكانات والتجارب الحزينة واللئيمة، الكثير من النضالات والتوجهات والأهداف، لكن حرفاً واحداً لم يتغيّر من مفردات البديهية الأولى والأبدية: فلسطين لأهلها، وليست للعصابات التي انتهكتها و"الشعوب" التي استوطنتها.. وتماماً مثلما تطلع الشمس من الشرق، ستبقى تلك الأنشودة صنو الدماء التي تجري في عروق الفلسطينيين جيلاً وراء جيل.. طالما بقي الخلق ضدّاً للفناء، وطالما بقيت هذه الدنيا مركونة تحت تلك الشمس، التي تدور في مستقر لها.

ويبقى بعد ذلك، أن الفلسطينيين ليسوا هنوداً حمراً، ولا صفراً. هم كهويّتهم محكومون بالبقاء والاستمرار ومأسورون بالحضور رغم جغرافية الوطن الضائع. حيويتهم الفذّة مرادفة لذلك الحضور. وتماهيهم الأخّاذ مع وطنهم وتاريخه يجعلهم رواداً في الصبر والأمل… ليسوا كغيرهم، لا من ناحية الطالع السيئ، ولا من ناحية الإصرار السعيد على نفي المأساة والقبض المكين على الرجاء الذي لا يفنى: من حسن حظنا وسوء حظ "الشعوب" المحتلة، لأرضهم، أنهم باقون. متآخون مع الأبد. ينتهون عندما ينتهي الزمان.. وهيهات تلك الاستحالة!.

السابق
منقبة أثرية تكشف طقوس دفن الفينيقيين في صور
التالي
200 جريح فلسطيني في اشتباكات مع الجيش الإسرائيلي بذكرى النكبة