هل يصلح النموذج التركي للبنان?

لقد وصلت الأوضاع السياسية والأحوال الحياتية في لبنان إلى درك من التردي والتقهقر والانحراف, بات المواطن اللبناني حيالها في حالة من اليأس والقرف يمكن وصفها بالفريدة في تاريخ هذا الوطن الصغير. معاناة هي في الواقع شاملة وتغطي مجمل الشرائح ومختلف الانتماءات, وناتجة عن انعدام الأمل في حدوث أي تغيير يرتجى من ورائه قلب هذه الأوضاع الرثة, عن طريق اندلاع ثورة شعبية أسوة بما هو حاصل ويحصل في مختلف البلدان المجاورة.
المؤسف أن أقصى ما بات يتمناه اللبنانيون اليوم هو حصول ارتدادات إيجابية على الساحة الداخلية تشكل امتداداً أو صدى لنجاح ثورات الجوار, أما بالنسبة الى انسداد الأفق حيال مسألة استحالة اندلاع الانتفاضة الشعبية في لبنان, فالمسؤول عنه بالدرجة الأولى هو الإعلام الفئوي الذي يتقصد الترويج الكاذب لقناعة يراد إدخالها في رأس المواطن تتمحور حول التأكيد على عدمية أي انتفاضة شعبية في لبنان على خلفية خطورتها من ناحية تمهيدها لحرب طائفية.
زد على ذلك الإيحاء للناس بأن أي تحرك ثوري قد يعمدون إليه سوف يؤدي في النهاية إلى عكس ما هم يرغبون به, أي إلى ترسيخ الطبقة الفاسدة التي يريدون التخلص منها. وهو إاعاء طبعاً خبيث وكاذب ويصب أولاً وأخيراً في مصلحة مرجعيات هذا الإعلام المنحرف والتابع.
نعم هو اخطبوط طائفي سلطوي إعلامي محكم القبضة على خناق اللبنانيين. برأيي لا يوجد وسيلة ناجعة وفعالة للتخلص منه بالطرق التقليدية أو حتى عن طريق تحرك شعبي فلقد حاول اللبنانيون خوض غمار هذه التحركات في السابق ولكن من دون أي نتيجة أو جدوى. برأيي لا بد من البحث عن وسيلة أخرى على صعيد مختلف تماماً عما يجري في الانتفاضات العربية, لا بد من العمل على استلهام أفكار جديدة من أنظمة نجحت فيها فلسفة الدمج بين العلمانية وبين احترام مواثيق وتعاليم الأديان بعيداً عن العصبيات والتطرف.
العلمانية التي دعا إليها رئيس الوزراء التركي رجب طيب أردوغان خلال زيارته ما اسماها دول الربيع العربي, لاقت نجاحاً مرحلياً في حينها, ولكنها للأسف ما لبثت أن خبا وهجها, بسبب عودة التيارات الإسلامية وبقوة إلى واجهة الأحداث. يبقى, أنه قد يكون من المفيد للبنانيين التطرق والتعمق أكثر بفلسفتها وأبعادها وطريقة تطبيقها على الصعيد اللبناني كمدخل للتخلص من الأخطبوط الطائفي المسيطر, ولكن من يؤدي هذه المهمة? هل ما يسمى طاولة حوار بين الزعماء التقليديين هي الكفيلة بمقاربة مجدية وناجعة في هذا المجال? الجواب لا. لأنك لا تستطيع أن تطلب من المستفيد من الأوضاع القائمة الانتحار عن طريق تبني نظام يطيح به في النهاية? التغيير يجب أن يأتي حتماً من خارج إطار هذه الطغمة الحاكمة بشقيها الموالي والمعارض, هما في النهاية فريق واحد يختلفان فقط على تقاسم المغانم والمواقع والمراكز والمقاعد البرلمانية. لا أمل يرتجى أيضاً من معارضة لا تسعى سوى الى كسب المقاعد والمواقع القيادية, معارضة لا تنظر إلى معاناة الناس ومشكلاتهم الحياتية لا يرتجى منها أي تغيير. وبالعلامة هل رأينا مثلا فريق "14 اذار" الذي يعتبر نفسه فريقاً معارضاً للحكومة, والحالة هي في هذا الدرك من الانحطاط والتردي على صعيد حياة المواطنين اليومية, هل رأيناه يهتم مثلاً بتوجيه أي دعوة للانتفاض والاحتجاج? أليس من الطبيعي أن ينزل الشعب اللبناني بكامله إلى الشارع احتجاجاً على تفشي الاغذية الفاسدة , والأدوية المزورة, والمياه الملوثة, واستدامة انقطاع الكهرباء, والغلاء التصاعدي في سعر المحروقات, والفلتان الأمني, وعمليات الغش والتزوير في الدوائر الحكومية, وارتهان القضاء وعدم حياديته ومماطلة العدالة في البت بقضايا عالقة في السجون إلى ما لا نهاية, وقد تطول اللائحة? ماذا فعلت المعارضة حيال كل هذه المعاناة? ما هي الخطوات العملية على الأرض التي دعت إليها ? هل دعت الناس للتظاهر للمطالبة باستقالة وزير الطاقة أو وزير الصحة مثلا احتجاجا على كل هذه الارتكابات? من المسؤول في النهاية عن الانحراف الحاصل? أليس الذي يحتل موقع المسؤولية في هذا المضمار?
في ظل هذا الأفق المسدود وفي خضم هذه المراوحة فلم لا تكون التجربة التركية ملهمة لمشروع تغييري في لبنان? صحيح أن التركيبة الطائفية في لبنان هي مختلفة تماماً, وأن غالبية الشعب التركي من المسلمين, ولا يوجد عندهم هذا التلون الطائفي والمذهبي الموجود في لبنان, ولكن يبقى أن نجاح هذه التجربة قد يكون مدخلاً لإعادة تكييفها وقولبتها لتتناسب مع تركيبة الشعب اللبناني المختلفة, فكل المحاولات ممكنة وقابلة لإعادة التأهيل حتى تتكيف مع الواقع اللبناني. إن أوجه التقارب والشبه العديدة بين المجتمعين التركي واللبناني هي التي قد تحملنا على البحث عن وسيلة لتبني مشروع مماثل في لبنان. فالمجتمعان تجمعهما ميزة الانفتاح الفكري والثقافي, إذ يتقبلان التمازج والاختلاط مع مختلف الثقافات, سيما الغربية منها. ناهيك عن النزعة المتزايدة التي نلاحظها على صعيد الشرائح الشبابية في لبنان والتي تنشد التخلص من هيمنة رجال الدين على صناعة القرار, رغم كونها أي معظم هذه الشرائح الشبابية غير ملحدة وملتزمة بأديانها وكتبها.
وكلمة حق تقا,ل فالشعب اللبناني ليس مسؤولاً عن صورة التعصب الطائفي التي تلازمه. التعصب الطائفي في لبنان, وبعكس ما يدعي المدعون , ليس في الحقيقة حالة مرضية تميز الشعب اللبناني وتطبع خلقياته. هي في الواقع منزلة عليه قسراً, نزعة تتم تغذيتها من قبل الأطراف المسيطرة من مؤسسات دينية ورجال سلطة تابعين لها, لأنها تكفل وحدها بقاء الممسكين بزمام السلطة حيث هم. العلة ليست في الشعب العلة في القبضة الحديدية المفروضة على الشعب . الشعب اللبناني يعيش ضمن ديكتاتورية طائفية مذهبية مافيوية مقنعة. في النهاية لا بد من استلهام التجارب الناجحة للخروج من النفق المظلم. وعن طريق المقارنة يمكن القول أنه إذا كان صحيحاً أن وصول حزب العدالة والتنمية إلى السلطة وسيطرته على الرئاسات الثلاث (الحكومة, البرلمان والجمهورية), جاء كحلٍّ لمشكلة تركية داخلية تتلخص انطلاقاً من واقع الصراع الذي أفرزته التجربة السياسية لمؤسس الجمهورية التركية كمال أتاتورك, وإذا كان صحيحاً بأن العوامل الخارجية, وأعني الشروط الأوروبية المتعلقة بتحقيق الشروط الديمقراطية للانضمام إلى العضوية الأوروبية, كانت أيضاً محفزاً آخر, فجملة معاناة الشعب اللبناني قد تشكل محفزاً أيضاً للبحث عن أي حل ممكن, زائد المراهنة على قابلية هذا الشعب لتقبل التجارب الريادية الفكرية نظراً الى ما يتمتع به من قدرة على التكيف ومن توق تاريخي للانفتاح على مختلف التيارات الثقافية والفكرية.  

السابق
مصر عايزة … محمد علي!
التالي
أنقرة وطهران: نهاية غير سعيدة