أزمة الرقم

لا يزال الرقم مخيفاً عند مقاربة الأمّية والفقر في العالم العربي، لم يغيّر الربيع شيئاً، بل زاد من تفاقم الأوضاع، أخذ الشعوب إلى اهتمامات أخرى، نسيَت فجأةً أنّ انعدام العدالة الاجتماعية كان من أبرز الأسباب التي فجّرت الانتفاضات، فإذا هي اليوم عشائريّة، مناطقيّة، طائفيّة، مذهبيّة، مصلحيّة. لم يطالب أحد بعدالة اجتماعيّة، أو ببرنامج اقتصاديّ – اجتماعيّ واضح الأهداف والمضامين، لم يتحدّث أحد عن توفير الحقوق البديهيّة: التعليم، العمل، السكن، الاستشفاء، وضمان الشيخوخة، الكلّ في حراك غير منضبط يبحث عن الأفضل، عن الحرّية، والعدالة، والحكم الرشيد، فيما النزف مستمرّ، ومعه الفوضى، فوضى في الشعارات، وفي وسائل تحقيقها.

الكلّ في زمن الربيع العربي مشغول بتحديد «الكوتا» التي يطمح لأن تكون من نصيبه، ومن المهمّ والمفيد أن تتلوّن بلون طائفيّ أو مذهبيّ أو مناطقي أو فئوي. أمّا الاقتصاد، أمّا المال، والأعمال، ومستقبل الأجيال فحدّث ولا حرج، إنّها آخر الاهتمامات، والأصحّ إنّها لم تتمكّن من أن تحتلّ أيّ أولويّة، في أيّ موقع كان، لغاية الآن. في زمن الربيع العربي يثور الشعب، ويجوع الشعب، فيما المسيرة عادت تدور في الحلقات المفرغة…

ولا يزال الرقم مخيفاً في سوريا… سوريا العملة، والاحتياط، والمصرف المركزي، والموازنة، والصادرات والواردات، والرواتب، والمستحقّات… كلّها اهتمامات تحت المجهر، هناك من يراقب ويتابع ويرسم الخطط والسيناريوهات، ويتكهّن بالنهايات المحتملة. الاقتصاد سلاح فعّال في معركة التغيير، وسلاح يعتمد عليه لتجويف النظام من الداخل حتى يصبح عرضة للانهيار مع أوّل عاصفة تهبّ عليه من خارج الحسابات والتوقّعات المتداولة. يفكّر الأوروبّيون هكذا، العقوبات ليست مجرّد ترف مزاجي، إنّها ثمرة درس مُضنٍ، وتخطيط دقيق كامل وشامل، وعندما قرّرت دول الاتّحاد تطبيق العقوبات، إنّما اعتمدت الأسلوب المبرمج، ووفق سلّم أولويّات يأخذ بعين الاعتبار مدى جدواها وفاعليتها، ومردودات تأثيرها السلبي المباشر على النظام، وأيضا على الطبقات الشعبيّة.

الحاسوب الأوروبّي لا يخطئ، ولا الكومبيوتر الأميركي – الغربي، والتوقّعات أنّه في حقبة زمنيّة ما ستكون وتيرة الانهيار سريعة ودراميّة، تفاجئ الجميع إن من حيث التوقيت أو النوعيّة… إذا استمرّت لعبة الدم؟!.

ولا يزال الرقم صعباً في سوريا: من يموّل هيئة المراقبين؟؟ الأمم المتّحدة؟ مجلس الأمن؟ الدول الخمس الكبرى الدائمة العضويّة؟ الدول النفطيّة؟ مَن؟ الموضوع مُلحّ، وقفُ النار بحاجة الى مراقبين، والمتداول تشكيل هيئة تضّم 200 إلى 250 مراقباً دوليّا يصار إلى اختيارهم من القبّعات الزرق المنتشرة في الشرق الأوسط، الى جانب هيئة المراقبين العرب. المفاوضات مستمرّة، وهناك أكثر من بعثة أوفدها كوفي أنان الى المسؤولين السوريّين للتفاوض، هناك تحفّظ سوريّ مبدئي على هيئة المراقبين العرب، لم يعد النظام يعتبر أو يعير اهتماماً للجامعة العربيّة، وما ينبثق عنها من هيئات واجتماعات وقرارات وتوصيات، وليس في وارد تمويل أيّ بعثة مراقبين، لأنّه لا يطلبها، ولأنّ موقفه واضح أنّه ـ من وجهة نظره – قادر على فرض الأمن، وما على المعارضة إلّا أن تستجيب إذا كانت فعلاً تريد حقن الدماء.

والرقم مخيف حقّاً في ربيع تونس، أنتجت صندوقة الاقتراع ديموقراطيّة أوصوليّة، وعاد الصراع ما بينها وبين الليبراليّين، الحرّية مكلفة في تونس، كذلك التنوّع والانفتاح. «البوعزيزيّة» التي أطلقت ثورة الياسمين لم تحقّق شيئا من الشعارات التي رفعتها: البطالة، توفير فرص العمل، السكن، الطبابة، التعليم، الزواج وتكوين الأسرة… كلّها شعارات دفعت بالتوانسة الى الشارع، وعندما تمكّن الحراك من خلع النظام، أصبحت المطالب في خبر كان لأنّ الجميع عاد إلى المربّع الأول: من يحكم في تونس؟ أهل العمامة، أم أهل الإمامة؟!.

والرقم في مصر ضائع… أكثر من 50 بالمئة تحت خط الفقر، في بلد الـ 70 مليون فم، ومعدة. إنّ مصر السياسة في فوضى، والبعض يتذاكى فيقول إنّها في مرحلة المخاض، ولكن ماذا عن مصر الطعام، والرغيف، والمسكن، والمشفى، والجامعة؟ إنّها أولويات، ولكنّها في المؤخّرة حاليّا، التحدّي الآن: تبقى مصر أو لا تبقي، وإن بقيت فأيّ مصر ستبقى؟ مصر التنوّع، والديموقراطيّة، والانفتاح والاستقرار، أو فرعون جديد يأتي ببذّة مرقّطة من صفوف الضبّاط، أو من موقع الحليف للمؤسّسة العسكريّة، لكن بربطة عنق أميركيّة؟!.

الرقم في زمن الربيع العربي في عنق الأزمة، وبدلاً من أن تذهب الأموال النفطيّة نحو التنميّة، فإنّها تستثمر في العنف، إنفاق على الدمار بدلاً من الإنفاق على الإعمار.

السابق
أنتم لا تعرفون من هو مروان شربل
التالي
هل تنجح القوات في تزخيم حضورها السياسي