الكتمان إجهاض

لا تعرف عنه شيئاً. لا تعرف إن كان يحبّ ركوب الدرّاجة أو يفضّل هواية التزلّج، لا تعرف إن كان يقبع في البيت خلال أيام الشتاء أو يخرج إلى الشارع باحثا عن حبّات المطر. التقت به منذ يومين، تكلّمت معه لمدّة خمس دقائق ومضى من دون أن يدرك أنه لامس شيئا في نفسها، شيئا غامضا، خفيفا، متطايرا.
لم تقل له شيئا، ففي الغالب، لا نقول شيئا. تمرّ الأحداث على غفلة منّا، نتحدّث عن أشياء أخرى، عن تغيّر الفصول، عن قميص أزرق اشتريناه في موسم التنزيلات، عن رحلة استغرقت ساعتين من الوقت من دون أن نفصح عن أشياء تحدث فعلا.
يحدث أن نحبّ صوت بائع الأحذية، أن نراقب حركة الأيدي في اجتماع صباحيّ، أن نغادر مكاتب العمل لنبتاع شالا أخضر يناسب لون الفستان الجديد، أن نتذكّر خلال دردشة قصيرة رائحة الفستق على مقاعد الدراسة.
يحدث أن تلهينا ربطة العنق البنفسجيّة عن الإصغاء إلى المحاضرة، أن يعيد رجل غريب الحياة إلى مخيّلتنا فنبدأ بنسج قصص طفوليّة واهيّة. ربما كان رجلا متزوّجا ولديه ثلاثة أولاد يبعثرون الفوضى في المساء، أو أعزب خانه الحبّ في سنّ المراهقة، أو رجلا وحيدا ينتظر رسالة إلكترونيّة من امرأة منذ فترة.
لم تقل له شيئا، ففي الغالب، نخبّئ مشــاعرنا، نخــاف من أن تفلت منّا، من أن يتسرّب الشعور من بين أصابعـنا، نخاف من أن نفــصح عن أشيــاء تحــدث فعلا، فالإفصاح اعــتراف، وثــيقة ولادة. تمــوت الأشــياء حين نتكتّم عنها، تفــقد معنــاها، تصــبح خارج الحياة، والحياة أشيـاء تحدث، تولد، تتطوّر، نتحدّث عنها، نتشــاركها، نفصح عنها بخفّة، بعفويّة، نهبها الحقّ في الحياة، لا نجهضها.. الكتمان إجهاض.

المشهد واضح

المشهد واضح: تجلس هي وصديقتها في ركن الحانة. تتحدّثان عن الطقس وعن بعض الأبحاث العلميّة وعن بعض اللقاءات. في الخلف يجلس هو وصديقته، لا تعرف عما يتحدّثان؟
في الحقيقة المشهد مختلف. هي تحبّه، هو لا يحبّها. منذ فــترة تحــاول أن تنسـاه، أن تتــجنّب هذه الحانة حيــث التقت به آخر مرّة. تضــرب لها صديقتها موعدا عند الســاعة السادسة مساء في الحانة عينها. تصل متأخرة بعـض الشيء، تدخل مســرعة، لا تنتـبه إلى الوجـوه، تختار مقعدها، تتطلّع في مرآة الحائط، يتراءى لها وجهه، انّه يجلس خلفها.
يوما ما، ستجلس وأحفادها في ليلة عاصفة، وحين ترعد السماء، سيسألها أحدهم عما يدور في الخارج، ستجيبه بأنّ فتاة ما التقت حبيبها صدفة في ليلة ماطرة.
المشهد واضح: يغادر وصديقته الحانة، يقترب منها ويودّعها.
في الحقيقة المشهد مختلف، هي تبكي في داخلها حتّى يتبّلل جسدها، تمرُّ الحياة بها لتلتقط اللحظة وتخبّئها، فتحاول أن تسألها: إن شاء القدر ألا يحبّها، فلماذا يصرّ دائما على أن يلتقيا؟

السابق
وفاة الممثل خالد تاجا
التالي
حماس: عناصر من فتح في غزة تشارك في مؤامرة من أجل إسقاطنا