في التسوية مجدّداً..

فلنفترض ونحلم يا اخوان، ولنقل، إن التسوية الكريمة في لبنان ممكنة، لإبقاء الحرب الباردة الدائرة بين مكوناته والمغلّفة بالخلاف السياسي، في مكانها. لا تبرحه الى الأفران. ولا تَسرَح عنه باتجاه الاشتعال. ولا تجد من يدقّ أبوابها، ويحركش جلساءها، ويوقظ نيّامها ويؤجج أوارها.. ولا نجد بعد ذلك، من ينظّر لها، باعتبارها خياراً لا بدّ منه، لا يستقيم اعوجاج الطريق للانتصار على المتآمرين "على الأمّة ورفعتها"، من دونها!

ولنفترض بعد ذلك، على طريقة الغزالي "ان الله قذف بقبسٍ من نوره" في صدور ولعانة وعقول مهتاجة، فهدأت تلك واستكانت هذه، وراحت معاً في سكرة تأمّل لتجد في النفق أضواء كثيرة، وفي الاخصام أُلفة ومودّة، وفي الأعداء المفترضين اشتباهاً في التوصيف وانحرافاً في التعريف.. ولتجد قبل ذلك ان الجغرافيا أقوى من الطموحات الجامحات، وأن المشاريع العظمى تدمّرها حقائق صغرى، وأن المجتمعات المتآلفة، الصافية في مكوّناتها، لا تقلّ خطورة عن تلك المتعدّدة والمختلطة والمتشابكة في عائلاتها وبطونها وأفخاذها ومصالحها! وأن الأوطان الحديثة في زمن الخروق الفلكية والفتوحات التقنية، لا يمكن لها أن تنجح إلاّ إذا علّقت أوهامها على حائط مخفي ووضعت تمايزاتها على رفّ قصي، وأبقت حدودها مطّاطة في التجارة والتبادل الفكري والعلمي، وحديدية في السيادة الأمنية والعسكرية!
ولنفترض بعد ذلك، ان تلك الأنوار التي أضاءت مكامن العتمة، أنعشت في طريقها، قراءات صحيحة، وأزاحت الافتراء والكيد جانباً، ومعهما تلك القراءات الآتيات من حسابات مستحيلة تراوح تفاصيلها واحتمالاتها التطبيقية، بين الفتنة بالمدافع والصواريخ والفتنة بالخناجر والسواطير..

ولنفترض فوق ذلك وقبله، ان كتب التاريخ يجب أن تؤخذ بكليّتها وليس بأجزائها، وان الاختيار الكيفي ليس حكراً على فئة دون أخرى، وأن القراءة الأحادية، هي تماماً كذلك، أحادية وخاصة ولا يمكن بأي حال وأي حلم وأي خيال تعميمها وفرضها وتحويلها دروساً وطنية عامة وشاملة! وان لكل الناس في الأول والآخر، "تاريخها". ولكل الناس تفسيراتها لذلك التاريخ. وان الخطب يصير جللاً مجلجلاً، إذا افترض طرف من دون آخر، ان الحقيقة طوع بنانه وحده، وان تلك تجعله ديّاناً قادراً على توزيع خرائط الوصول الى الجنّة على أصفيائه وأتباعه وربعه وأهل قومه وحدهم. وأن الآخرين، "الاغيار" لهم في الدنيا زاد كافٍ، ولا ضرورة لمزيد!

في فذلكة النص ـ الوثيقة التي أطلقت بالأمس وكلمة الرئيس سعد الحريري، اقتراب فخم ودقيق وجليل السبك، من المعنى الأخير لمصطلحات الاجتماع المدني، الوطني، الدولتي، المؤسساتي، الأهلي، وقبله الاجتماع النافي للفتنة في كل مراتبها وكل مبانيها.. ومعه الضرورة القصوى لفهم عبثية البناء على تمايز عابر، أو خصوصية موهومة، أو الأخذ بـ"أبوّة" تمون بضمانتها على الجميع! وفيها فوق كل ذلك دعوة "واعية" الى الالتقاء مجدّداً تحت سقف حقائق تشبه الجبال والوديان والشطآن والمحيطات.. ولا قدرة لأحد (تكراراً لا قدرة لأحد) على إزاحتها مهما توهّم وتكبّر واعتبر وافترض، ومهما دَعّم أوهامه وافتراضاته.

التسوية الكريمة تلك ليست حلماً في آذار، بل حقيقة تشبه تماماً الطبيعة الجغرافية والبشرية لبلدنا: طالما هو في مكانه وليس في الصين، طالما هي في مكانها.. والباقي عبث لا يليق بالأذكياء ولا بعصر الذكاء!

السابق
فتفت: لطلّع الحمار عا سطح ينزّلو
التالي
ماذا تفعل عندما تيأس من وطنك؟!