الاهتمام الاميركي يتحول من سورية الى ايران

ينصب الاهتمام الأميركي حالياً على الملف الإيراني ببعده الإسرائيلي من الناحية العسكرية وببعده الروسي والصيني من الناحية الديبلوماسية الدولية. انحسر المنطق الداعي الى كسر عنفوان وهيمنة إيران عبر المحطة السورية من خلال حشد ما يلزم من أجل إسقاط النظام في دمشق. لكن هذا لا يعني ان هدف إسقاط النظام قد تم سحقه أو التراجع عنه كلياً. الاختلاف قائم على الوسائل والأولويات والأولوية الآن في أحاديث المؤسسات الأميركية، العسكرية والحكومية والفكرية والإعلامية، باتت لإيران بعدما نجح رئيس الحكومة الإسرائيلي بنيامين نتانياهو في تحويل مسيرة بوصلة الاهتمام الأميركي بعيداً من الخيار السوري لتحط في الخيار الإيراني. السيناريوات عسكرية بمعظمها وهي كثيرة ولافتة في تخبطها وفي أبعادها على الساحة الأميركية الداخلية بعدما باتت مادة انتخابية بامتياز.

بنيامين نتانياهو تمكّن أثناء زيارته الى الولايات المتحدة قبل أيام من تسجيل انتصار كبير عندما فرض على الرئيس الأميركي باراك أوباما إزالة خيار «الاحتواء» لإيران من سياساته بعدما كانت سياسة «الاحتواء» ركيزة أساسية للرئيس الأميركي منذ بدء ولايته. هذا إنجاز لا يستهان به لنتانياهو إذ إنه أدخل الى القاموس الأميركي السياسي التزاماً على مستوى الرئاسة بالتخلي عن سياسة الاحتواء. تلك السياسة أبعدت الخيار العسكري وارتكزت الى العقوبات الموسعة كوسيلة لترغيب طهران، إن في التعاون من جهة، ولإضعاف النظام في طهران عبر التآكل والانتهاك.

الانجاز الآخر تمثل في قول نتانياهو ان أوباما أقر له بحق إسرائيل السيادي في الدفاع عن النفس. كلمة السيادي في رأي البعض تعني ان نتانياهو حصل على موافقة أوباما بأن تقوم إسرائيل، انفرادياً، بتوجيه ضربة عسكرية الى مواقع إيرانية هدفها القضاء على – أو تأخير – البرنامج النووي العسكري الإيراني.

اللجوء الى الخيار العسكري أمر مختلف عليه إسرائيلياً وأميركياً وعربياً. هناك مدرسة فكرية تقول ان من الغباء إعطاء طهران ذخيرة دعم إسلامي ودعم داخلي للنظام يحييه من العزلة ويقدم له حبال النجاة. أصحاب هذا الرأي يعتقدون بأن تطويق إيران بالعقوبات وبالعزلة الدولية هو الخيار الأنجع، لا سيما ان العملية العسكرية مفتوحة الأفق على احتمال الفشل والانتقام وربما كارثة أسلحة دمار شامل في المنطقة. ويضيف هؤلاء ان الخيار الأفضل للتخلص من النظام في طهران يكمن في إضعافه عبر إقفال البوابة السورية الى «حزب الله» في لبنان، الأمر الذي يتطلب إسقاط النظام في دمشق. وهذا بدوره يشجع الداخل الإيراني على الانتفاض ضد النظام، لا سيما إذا حصل على دعم خارجي للقيام بذلك.

مدرسة الفكر المضاد تشير الى ما تعتبره إسرائيل مسألة وجودية لها، بمعنى، ان حصول إيران على السلاح النووي يهدد بمحوها عن الخريطة. وبالتالي، قررت القيادة الإسرائيلية ان الوقت الملائم لضرب القدرات الإيرانية النووية هو الآن لأسباب إيرانية وإسرائيلية وأميركية.

إيرانياً، لأن تقديرات الاستخبارات تفيد بأن إيران قطعت شوطاً مهماً في حيازة القدرة النووية وأن الانتظار الى حين استكمال سياسة الاحتواء سيؤدي الى فوات الأوان، إذ ان إيران حينذاك تكون امتلكت القدرة النووية. إسرائيلياً، لأن الحسابات السياسية لكل من رئيس الحكومة ووزير الدفاع إيهود باراك استنتجت ان النافذة العسكرية متاحة لإسرائيل قبل الانتخابات الأميركية الرئاسية وليس بعدها. فكلاهما لا يثق بأن باراك أوباما سينفذ وعوداً عسكرية ضد إيران إذا ما تم انتخابه الى ولاية ثانية. وبالتالي، استنتج الرجلان ان الأمر لا يحتمل المغامرة. إضافة، أميركياً، الى أن المعركة الانتخابية تفتح الباب أمام إسرائيل للحصول على أقصى قدر من الدعم لأي ما تريده حتى وإن كان حرباً يرفضها الرأي العام الأميركي.

توقيت الضربة العسكرية، على ما تتداوله الأوساط الأميركية المقربة من التفكير الإسرائيلي قد يكون قبل حلول شهر حزيران (يونيو) أو قد يتأخر حتى شهر تشرين الأول (أكتوبر)، على ما تقتضيه الترقبات العسكرية والحسابات السياسية. المهم ان تكون الضربة قبل إجراء الانتخابات الرئاسية، وفق قول البعض. لكن، هناك رأي آخر يقول ان ما اتفق عليه أوباما ونتانياهو هو تأخير الضربة العسكرية الى ما بعد الانتخابات مع تعهد الرئيس الأميركي بأن يكون شريكاًَ أقوى لإسرائيل في هذا العمل. بالطبع، هناك رأي ثالث يقول ان كل هذا الكلام عن ضربة عسكرية هو للاستهلاك والتهويل والتأثير في إيران كي تتجاوب مع جهود الدول الخمس الدائمة العضوية في مجلس الأمن زائداً ألمانيا والرامية الى حل سلمي للملف النووي الإيراني. ووفق هذا الرأي، لم يسبق أن انخرطت إيران وإسرائيل في حرب مباشرة في تاريخهما كما ان التهادنية سمة من سمات التعايش التاريخي بين الفرس واليهود.

الذين يؤكدون ان عملية إسرائيلية ضد المواقع النووية الإيرانية ستحدث بالتأكيد يتوقعون لها ان تكون عملية إسرائيلية بحتة وليست عملية إسرائيلية – أميركية. ولكن، هذا في الدفعة الأولى فقط، علماً أن أي رد انتقامي إيراني من إسرائيل سيؤدي الى انجرار الولايات المتحدة الى القيام بعمليات عسكرية مختلفة نوعياً وصفها جنرال سابق بأنها ستكون مدمرة على نطاق واسع تدب الهلع والرعب في صميم القيادة الإيرانية وتدميرها.
سيناريو إستراتيجية المخرج الذي يتحدث عنه البعض لافت وإن لم يكن مقنعاً. هذا السيناريو يرتكز على إبلاغ القيادة في طهران ان الأفضل لها ألاّ ترد بانتقام من عملية عسكرية إسرائيلية ضد المفاعل الإيرانية لأن في عدم ردها وسيلة البقاء في السلطة فيما ان ردها سيؤدي الى هلاكها.

بكلام آخر، يعتقد أصحاب هذه النظرية ان إبلاغ القيادة في طهران ان ردها بانتقام من العملية الإسرائيلية سيدفع بالولايات المتحدة الى الدخول طرفاً مباشراً في عمليات عسكرية ضد المواقع الحيوية للنظام في طهران. وهذا بدوره سيسفر بالتأكيد عن سقوط النظام. أما إذا «بلعت» القيادة في طهران الضربة الإسرائيلية ولم ترد عليها بانتقام من إسرائيل، فسيكون هذا وسيلة استمرارها في السلطة.

ما لا يقلق أصحاب هذا الرأي هو ان ترد إيران بحروب الوكالة عبر «حزب الله» وغيره ضد دول مجلس التعاون الخليجي. فهذا أمر ليس من الأولويات لدى أصحاب هذا الرأي، ذلك ان الأولوية الوحيدة ألاّ تنخرط إيران في حرب مباشرة أو حرب بالوكالة ضد إسرائيل عبر «حزب الله».

سورية لدى هؤلاء مسألة لا يهمهم أمرها اليوم وهم اليوم لا يبالون إن بقي بشار الأسد في السلطة أو زال. انهم يتحدثون بلغة «من هو البديل» وليس بلغة «يجب إسقاط النظام» التي كانت سائدة قبل أشهر. قد يكون هؤلاء أنفسهم هامشيين في صنع القرار الحكومي لكنهم يؤثرون في عملية صنع القرار كونهم من أركان المؤسسات العسكرية والإعلامية.

إدارة أوباما بدورها تراجعت عن حماستها لإسقاط النظام في دمشق بأي وسيلة كانت. فهي اليوم أوضحت انها لن تكون طرفاً في تسليح المعارضة، ولن تتدخل عسكرياً كما اقترح السناتور الجمهوري المرشح السابق للرئاسة جون ماكين، ولن تتصلب في مجلس الأمن كما سبق وتصلبت. لذلك، ان المفاوضات على مشروع القرار الأميركي تفيد بأن إدارة أوباما راغبة في إرضاء روسيا، وليس مواجهتها، ولذلك ان مشروع القرار الأميركي تم تفريغه من أية أسنان.

قد يكون في ذهن أركان إدارة أوباما إعطاء الأولوية لتعاون روسي وصيني معهما في الملف الإيراني لأنه أصبح اليوم أكثر إلحاحاً بسبب ما أوضحته الحكومة الإسرائيلية. هذا لا يعني ان إدارة أوباما استقرت على الإبقاء على نظام الأسد في دمشق إلا انها ترى ان زواله آتٍ حتماً لاحقاً عبر تآكله.

لذلك تتحدث الديبلوماسية الأميركية والبريطانية بلغة الحلول السلمية والمعونات الإنسانية والمفاوضات، وليس بلغة تغيير النظام عبر التسليح وإنما عبر آليات سورية. وهذا لا يخيف النظام في دمشق. لا يخيفه كلام العزلة والعقوبات بقدر ما يخيفه التسليح وترداد كلام إسقاط النظام.

لذلك جاءت مهمة الأمين العام السابق للأمم المتحدة كوفي أنان كمبعوث مشترك للأمم المتحدة ولجامعة الدول العربية لتكون شبه مهمة توسّط ووساطة بين الولايات المتحدة ودول أوروبية من جهة وبين روسيا من جهة أخرى. هذا الى جانب مفعولها البديهي في عملية شراء الوقت والتي ستكون لمصلحة النظام السوري من ناحية ولمصلحة محاولة ترميم العلاقة الأميركية – الروسية من ناحية.

روسيا مصرّة على مواقفها الأساسية لكنها تفتح نافذة إغراء هنا وتقفل نافذة استنتاجات مسبقة هناك. انها حالياً شريكة للأميركيين في التخويف من «القاعدة» ومن «المجهول» في صفوف المعارضة السورية. وهي شريكة لشق من الإسرائيليين في إقناع الشق الآخر المتردد بأن الوضع الراهن في سورية أفضل لإسرائيل من نظام بديل مضطرب ومجهول التوجهات.

وكما داخل إسرائيل هناك انقسامات تجاه النظام السوري، كذلك هناك انقسامات داخل المعسكر العربي وحتى الخليجي، كما أوضحت تطورات الأسبوع الماضي. المملكة العربية السعودية وقطر تتصدران جهود واستراتيجية تسليح المعارضة السورية فيما دول أخرى في مجلس التعاون الخليجي – وكذلك جامعة الدول العربية وتركيا أيضاً – تريد ان يكون تغيير النظام في دمشق من طريق العزلة والاحتواء والعقوبات وليس من طريق التسليح.

الأمور تزداد تعقيداً وغموضاً مع بروز المسألة الإيرانية كأولوية إسرائيلية وأميركية. المسؤولون الأميركيون يقولون انهم لا يحبذون دخول الولايات المتحدة طرفاً في تسليح المعارضة لكنهم لا يمانعون قيام آخرين بتسليحها. الخليجيون قد لا يمانعون ضربة إسرائيلية عسكرية لإيران، لكنهم يخشون ان تدخل الولايات المتحدة طرفاً عسكرياً لأن ذلك سيثير الانتقام والحفيظة ضدهم.

انها مرحلة في غاية الخطورة، والجميع على المحك مهما تظاهر أي طرف بأنه في أمان أو نجاة.

السابق
تسوية بين جنبلاط والأكثرية
التالي
وديعة رابين!