بين الراعي وحارة حريك.. براغماتية مكمّلة للانعطافة البطريركية

 تسعة أشهر مرّت على انتخاب بشارة الراعي بطريركا للموارنة. مدة أكثر من كافية ليدرك «حزب الله» الفارق الكبير بين سيّد بكركي القديم وبين سيدها الجديد.
لم تكن مواقف راعي ابرشية جبيل التي سبقت دخوله مقر البطريركية تمهّد لصفحة جديدة بين الضاحية وبكركي، فالراعي كان متماهياً مع «ثوابت» البطريرك نصرالله صفير من السلاح وقرار السلم والحرب والوصاية السورية.
قبل عام تحديداً، جمع احد المحاورين السياسيين الراعي بالنائب علي فياض «على الهواء». توجّه إلى النائب في «حزب الله» بالقول «يخيفني السلاح خارج الاستراتيجية الدفاعية وإن كان لا يخيف العماد ميشال عون».
حملُ عصا البطريركية لم يغيّر في قناعات ساكن بكركي الجديد. الأدق ان حجم المسؤولية دفع سيّد الصرح لأن يكون أكثر براغماتية…
جواب «حزب الله» حاضر: «الراعي يعرف ما يريد. خط سيره واضح. صريح ومباشر. رجل حوار. يبعث الارتياح لدى الطرف الآخر. لا يفصل بين القول والفعل. لا يرفع شعارات لمجرد الشعارات. مواقفه وتصريحاته مدروسة».
في الاستراتيجيات، لم يتأخر الراعي في طمأنة «حزب الله» إلى «تلازم المسار» في النظرة إلى الوضع في المنطقة عموماً وسوريا خصوصاً. في التفاصيل، والمحكمة الدولية نموذجاً، لم يفسد التباين في ودّ التقارب قضية. سيّد بكركي يراها «ضرورة» لكشف القتلة ومحاسبتهم، و«حزب الله» يتفهّم ويطنّش. أما على الأرض، وهذا ما يهمّه، فقد لمس الحزب لمس اليد ماذا يعني أن يكون بشاره الراعي وليس أي بطريرك آخر جالساً على كرسيّ بكركي.
«أزمة لاسا» كانت الامتحان الأول. وقف سيّد الصرح بوجه التسييّس المنظم من جانب فريق 14 آذار للقضية آخذاً إياها بصدره. واجه المندفعين لتكبير حجر الخلاف العقاري بموقف حازم «المسألة حسّاسة ولا تحتمل بطولات مناطقية». اكثر من ذلك، حرص الراعي على متابعة تفاصيل الأزمة شخصياً، ولم يعمد إلى تكليف أي مطران بالملف. استقبل الوفد الإسلامي ـ المسيحي المشترك المولج بمتابعة القضية و«لجنة المتابعة»، ممسكاً العصا من النصف «النزاع عقاري وتسييسه من المحرمات».
لم تتطابق مقاربته لهذا الملف مع مقاربة فارس سعيد وحلفائه، ولم يتجاوب مع دعوة الأخير له للتدخل مباشرة مع نائب رئيس المجلس الإسلامي الشيعي الأعلى الشيخ عبد الأمير قبلان ليضع حداً «لاستفزازه». بالوقائع شهدت قيادات الحزب على جهود البطريرك الراعي لإخراج المسألة من دائرة البازار السياسي و«مقاومة» النفَس الطائفي الذي أدار من خلاله الآذاريون «معركة لاسا». أما أزمة «كابلات ترشـيش» التي أثارها نائب المتن سامي الجميل فلم يدرجها الراعي أصلاً على جدول أعماله. «حزب الله» نفسه لم يفعل ذلك. آثرت البطريركية الابتعاد عمّا يمكن أن يجرّها إلى فخ الاصطفاف إلى جانب فريق بات خبيراً في «بروباغاندا» «شيطنة» كل ما يمتّ إلى المقاومة وسلاحها بصلة.
وكما يجد «حزب الله» تبريرات للراعي في ما يتعلق بموقفه من المحكمة الدولية تحضر هذه التبريرات عندما يتعلق الأمر بجريمة ساحل علما. ففي مقابل الاعتراضات الواسعة على «عنصرية البطريرك» حامل شعار «شركة ومحبة»، بعد دعوته الرعايا والكنائس لعدم إيواء الأجانب غير المسيحيين، رفض مسؤولو الحزب تبنّي هذه التهمة. لم يقرأوا بين سطورها ما يقود إلى الحديث عن عنصرية «الحادثة كانت مؤلمة، وما صدر عن البطريرك الراعي كرد فعل جاء تحت وطأة الصدمة وليس انطلاقاً من نظرة دونية للآخر».
لم يعتبر «حزب الله» موقف الراعي الذي شدد فيه على أهمية ضبط السلاح ضمن الشرعية اللبنانية، موجهاً ضده. بالعكس، فقد رأى أن تهليل فريق 14 آذار لهذا الموقف هو كمن يريد أن يغرق في شبر من المياه. نحن ندرك أن الراعي لا يمكن أن يصدر عنه إلا موقف كهذا… ونحن على ثقة أنه يميّز بين سلاح المقاومة وبين السلاح الذي يستخدم في الداخل وهو سلاح مدانٌ ومرفوض.
حتى اللحظة لم يتمكن سيّد بكركي من الالتزام بقرار زيارة سوريا الذي أعلنه فور انتخابه بطريركاً حيث تزامن دخوله الصرح مع بداية الأحداث في دمشق. يومها ذكّر الرعية والسلف بواجبات أي بطريرك «بزيارة الأبرشيات كل خمس سنوات وأنا سأزور أبرشياتنا في سوريا». كان ذلك من أهم إشارات الانفتاح التي وجّهها البطريرك الجديد إلى حلفاء سوريا في لبنان على رأسهم «حزب الله». وجاءت كخطوة مكمّلة لما سبق لميشال عون، الحليف المسيحي الأول للضاحية، أن بدأه حين أعاد تدشين جسر العبور لمسيحيي لبنان باتجاه دمشق برموزها السياسية والدينية.
لم يتأخر الراعي كثيراً في استكمال الخط البياني لانعطافة الصرح البطريركي نحو مقاربة مختلفة تماما عن مقاربة البطريرك نصرالله صفير في «حياكة» خيوط العلاقة مع سوريا. إقرار بـ«خطايا» عهد الوصاية وفي المقابل، رفع «الضوء الأحمر» باتجاه المراهنين على «ربيع المنطقة» للانتقام من دمشق ورئيسها بشار الأسد.
في قاموس الحسابات الداخلية الضيقة، لم يقدّم الراعي من خلال موقفه الواضح من الأزمة في سوريا أوراق اعتماد أمام أي من حلفاء دمشق في لبنان بقدر ما وجهّ تحذيرا شديد اللهجة إلى نصف الشارع المسيحي، بقياداته وناسه، لعدم الانجرار إلى لعبة الرهان على تغيير النظام في سوريا، محذرا مما أصاب المسيحيين في العراق.
كان كلام البطريرك أكثر من واضح «من يتحدث عن الديموقراطية فلينظر إلى العراق». يرى «حزب الله» «أن قلق الراعي مشروع، كما قلقنا، بوجود جهات تغضّ النظر عن محاولات تهجير المسيحيين من المنطقة. الحرب المذهبية في المنطقة ســتكون كلفتها باهظة على الجميع».
لم يقصد الراعي يوماً الإيحاء ان الكنيسة تقبل «التلوّن» مع نظام بشار الأسد. في مفهومه، هذا النظام امّن القدر المطلوب من الحماية للمسيحيين. والرهان على المجهول سيقود إلى حرب أهلية أو التقسيم. وبلغة غير دبلوماسية، ومن دون قفازات، تقف بكركي اليوم بوجه السياسات الأميركية والغربية الساعية للتقسيم.
موقف لم يفصله «حزب الله» عما يعتمل من نقاش في الدوائر الفاتيكانية حول مستقبل مسيحيي المشرق.. لم تنل مواقف الراعي إعجاب الأميركيين، فحرموه من فرصة اللقاء مع أي مسؤول أميركي خلال زيارته الأميركية الأولى والتي سبقتها زيارة روما وبعدها باريس.
حاول الأميركيون الاستدراك، فكان القرار بأن تشمل جولة جيفري فيلتمان الأخيرة الى لبنان، سيد بكركي.. من بعد هذه الزيارة، تجدد الحديث عن زيارة رعائية ثانية لسيد بكركي الى الولايات المتحدة، غير أن أحد النواب الموارنة، نقل مناخات سلبية عن الراعي، ازاء النظرة الأميركية للمسيحيين في المشرق، وقال أحد المطارنة إن الأميركيين يتصرفون وكأن شيئاً لم يحدث في العراق على مدى تسع سنوات من القتل والتهجير الذي اصاب المسيحيين وغيرهم من العراقيين.
يقول مسؤول الملف المسيحي في «حزب الله» الحاج غالب أبو زينب «الأسئلة والهواجس التي طرحها البطريرك بشارة الراعي هي نفسها التي تشكّل هواجس الفاتيكان في المنطقة. كيف يمكن حماية المسيحيين في هذا الشرق؟ بالنسبة لنا ليس هناك انفصال بين رؤية الفاتيكان للمخاض الذي تمرّ فيه المنطقة ورؤية بكركي.
في العادة، تنطلق قراءات الكنيسة الأم من الواقع الداخلي للبطريركيات والأبرشيات حول العالم. هناك قراءة مشتركة لا يمكن لأحد أن ينكرها. والراعي من خلال زياراته الخارجية، وخاصة زيارة باريس، تلمّس خطورة اسلوب التعاطي مع الوجود المسيحي في المنطقة.
نقطة اخرى تصبّ في رصيد «العهد الجديد» بين الضاحية وبكركي. في زياراته الخارجية، ردّد الراعي كلاما لا لبس فيه «حكومة لبنان ليست حكومة «حزب الله». وسلاح المقاومة مبرّر طالما الجيش ضعيف وخطر التوطين قائم واسرائيل تحتل جزءاً من الاراضي اللبنانية في مزارع شبعا».
من يقصد بكركي في هذه الايام، يسمع المعزوفة نفسها. الراعي يتحدث عن قناعات وليس مجرد شعارات او «بيع كلام». خطاب ما بعد نهر الكلب، اذاً، لم يعد يشكل عبئاً ثقيلاً على صدر الضاحية. ما بعد البطريرك نصرالله صفير ليس كما قبله. يردّد مسؤولو «حزب الله» من دون أن يتوهموا ان «بكركي اصبحت 8 آذار»…
خرجت مورا كونيللي من الصرح البطريركي، فدخل غالب أبو زينب. يأتي لقاء الأمس بين الحزب والراعي (استمر لنحو ساعة) في اطار تعزيز العلاقة بين الضاحية وبكركي. هي ليست زيارة بروتوكولية انما تصب في خانة الخطوات العملية لتكريس برنامج عمل جديد في التواصل مع الصرح البطريركي. وايضاً في اطار تعزيز عمل لجنة المتابعة بين الطرفين. لم يتمّ التطرق الى موضوع المحكمة وموقف الراعي منها وهو ليس مفاجئاً للحزب. توافق بين الجانبين على القراءة الموحدة للضاحية وبكركي حيال الملفات الوطنية الاستراتيجية، وفي الختام كما في البداية تحية خاصة من السيد حسن نصرالله وبطاقة معايدة بعيدي الميلاد ورأس السنة الجديدة وتمنيات للراعي بطول العمر والصحة الوافرة.
لم يطل الموعد، اذ كان الصرح البطريركي على موعد مع رسيتال فني ديني ميلادي أحيته الفنانة رونزا.. لا الراعي وجّه الدعوة الى ابو زينب لحضور الحفل، بل حتماً كان الثاني، على موعد مع إحياء الليلة الحادية والعشرين من ليالي عاشوراء.
 

السابق
الانوار: الاجتماع الماروني: مشاورات وطنية حول مشروع اللقاء الارثوذكسي
التالي
ماذا يعني تأييد قوى حكومية إضراب العمال؟ قوى 8 آذار في مأزق وإرباكات