جاذبو الخيوط

القاهرة تشتعل. وينتشر الحريق من ميدان التحرير الى داخل أزقة العاصمة المصرية المكتظة والفقيرة والمتعرقة وخائبة الأمل. الى الآن فإن الثورة المصرية فضلا عن أنها لم تحسن الى الشعب زادته بؤسا. ان الجارة الجنوبية خسرت عشرات مليارات الدولارات بسبب الوقف شبه المطلق للسياحة والمس بتصدير الغاز الى اسرائيل وهرب المستثمرين الاجانب، ومغادرة شركات دولية، وموجة اضرابات وتعطيل عمل وانتشار العنف. أصبحت القاهرة مدينة خطيرة غاضبة، والاسكندرية تغرق في الضباب والخدمات العامة تنهار.

في الجانب السياسي تحسنت بقدر ما حقوق المواطن قياسا بعهد مبارك، لكن حرية التعبير الاعلامية لا تزال محدودة وتخضع لمصالح الجماعة العسكرية الحاكمة. ولم يجرِ نقض اجهزة الظلام بل استوعبت في صفوفها الكثير من العملاء الجدد. وحياة الطالب الجامعي العادي في جامعة القاهرة والفلاح على ضفة النيل أصعب اليوم مما كانت في العام الماضي. وكلاهما لا يرى ظل تحسن في الأفق.
القاهرة تحترق اذا. ان خيبة الأمل المشتركة بين أكثرية الشعب المصري تبحث لنفسها عن مخرج وتجده في شخص المجلس العسكري الذي أخذ بيديه زمام السلطة. ان التظاهرات الضخمة موجهة كما يبدو على الجنرالات الذين يتمسكون بالسلطة وهم الجنرالات أنفسهم الذين تولوا تلك السلطة في ايام مبارك ايضا.بيد أنه من وراء التظاهرات تجذب الحركات الاسلامية الخيوط علنا وسرا. وهدفها ان تمنع بواسطة الاضطرابات الدامية اقامة انتخابات حرة. لأن شيئا واحدا قد تغير في مصر بعد سقوط مبارك، فهي في مواجهة جميع الاحتمالات سارت في طريق الى الديمقراطية البرلمانية. ان المجلس العسكري سمى موعدا لانتخابات تعددية لمجلس الشعب وللرئاسة بعد ذلك وينوي ان يفي بوعده. ويفترض ان تبدأ المرحلة الاولى بعد اسبوع. وهذا امتحان قومي حاسم.
يخشى قادة الحركات الدينية – السياسية المتطرفة ان يخاطروا بتجربة اسمها انتخابات ديمقراطية، فهم معنيون بسيطرة مطلقة من غير انتخاب. وهم الممثلون والمعبرون المخلصون عن «الفاشية الاسلامية السياسية». لكن ليس الاسلاميون جميعا يريدون الحكم بلا انتخابات. فبينهم معتدلون يريدون الاحتذاء على مثال تركيا اليوم التي ليست ديمقراطية كاملة (فهي بعيدة عن ذلك)، لكنها ليست ايضا جمهورية اسلامية كايران (فهي بعيدة عن ذلك ايضا).

غير ان صوتهم أخذ يضعف. والمتطرفون – وهم منظمون وموحدون وأصحاب برنامج عمل – يتعززون أو على الأقل يقوون حضورهم في الشارع. وهم، اجل هم خاصة، يخشون حكم الشارع قرب صناديق الاقتراع من وراء الستار. من الواضح لكل مراقب موضوعي ان مصر بعد انتخابات حرة لن تكون الاستمرار الطبيعي لمصر التي سبقت ذلك: فالمواطنون الذين ذاقوا ولو مرة واحدة طعم الانتخاب الحر، لا يتخلون عنه بسهولة.
ان مفترق الطرق الذي تقف مصر أمامه مصيري لا لها وحدها بل للشرق الاوسط العربي المسلم كله. فاذا نجح الجمهور المحرض في ان يولي بالقوة الحلقات المتطرفة من الاخوان المسلمين ليصبحوا الحكام الجدد لمصر بلا انتخابات وبلا تنافس في قلوب المقترعين وبلا ضرورة اجراء تفاوض ائتلافي، فستصبح مصر قاعدة قوة «الفاشية الاسلامية» وستصبح تهديدا حقيقيا للمنطقة كلها.  

السابق
تحد استراتيجي جديد
التالي
سوريا وافقت على بروتوكول الجامعة العربية مع ملحق رسالة العربي