واحد مقابل ألف !

!صفقة تبادل الأسرى التي تمت بين إسرائيل وحركة حماس، الحاكمة في قطاع غزة، ولعبت مصر الدور الرئيسي فيها، جاءت بعد أن خرجت حماس من سوريا – وربما من طهران – وفقدت العاصمة السورية قسما كبيرا من نفوذها عليها، بعد أن رفضت الحركة مساعدتها ضد الشارع السوري والمعارضة.
ومع أن العملية تغري بالحديث عن السياسة، فإنني لا أراها من جانبها السياسي على أهميته، وإنما سأركز على دلالات الحدث الإنسانية، التي كثيرا ما يحدث المواطن العربي نفسه عنها لكنه لا يجد في نفسه الشجاعة الضرورية لمناقشة مدلولاتها بصورة علنية، خشية أن يتهم بالعمالة للعدو أو بالإعجاب بمواقفه، التي جعلته يبادل أكثر من مرة إسرائيليا واحدا أو عددا قليلا من الإسرائيليين بآلاف الأسرى العرب، الذين غالبا ما تنساهم حكوماتهم أو ترى فيهم مواد صفقة تعد نفسها بالتكسب من عقدها، تعزز مواقفها ليس حيال العدو الإسرائيلي، بل تجاه هذا الطرف العربي أو ذاك، بينما يسعى الوسيط العربي الذي يساعد على عقد الصفقة إلى تحقيق كسب ما حيال طرف عربي ما، مما يفقد التبادل الجزء الرئيسي من دلالته الإنسانية، وما يحمله من أهمية سياسية، ويحرفه عن هويته وغايته الأصلية ويقلبه إلى جزء من صراع ديوك داخلي وعربي، تحرص إسرائيل عليه كل الحرص وترى فيه أحد عوامل قوتها، وتسوقه في العالم باعتباره جزءا من تفوقها الأخلاقي على أصحاب الحق العرب.
 
لم تغير وعود أبطال التحرير العرب هذه المعادلة، ليس فقط لأنهم فشلوا في تغيير موازين القوى مع العدو أو تحسينها، بل لأنهم نجحوا أيما نجاح في توسيع هوة التقدم التي تفصل بينه وبينهم توسيعا لا مثيل له طيلة صراع القرن الذي دار حول فلسطين. ولم تبدل «انتصاراتهم» المزعومة، التي لا يكف إعلامهم عن التغني بها، هذه الحقيقة المهينة التي تجعل العربي العادي يشعر بالإذلال، حين يقارن أرقام الأسرى العرب في سجون العدو بأسراه في السجون العربية، أو أعداد الأسرى هناك بأعداد المساجين والمعتقلين من مواطنيه داخل بلاده، فيتأكد أن جهد النظم الذي استهدفه كان أكبر آلاف المرات من جهودها ضد من كانت تسميه «العدو الصهيوني»، ويدرك أن هذا الوضع هو الذي جعل أسرانا كثيرين دوما لدى العدو وأسراه قلة عندنا، فالذين يتبجحون بتحرير فلسطين منحوا أولوية مطلقة لتطهير بلدانهم من أي صاحب رأي أو موقف داخلها، وغطوا سياساتهم، التي لعبت دوما دورا خطيرا في ضياع فلسطين، بشعارات كان ظاهرها ضد العدو وباطنها ضد المواطن في بلدانهم، ثرثرات بلا مسؤولية حول مركزية فلسطين من سياساتهم والمعركة التي يخوضونها من أجل تحريرها ويعطلها المعترضون عليهم ومعارضوهم، الذين هم بالضرورة طابور خامس لا نجاح ضد العدو دون القضاء التام عليه.

بهذا التغيير في الأولويات السياسية، انتقلت معارك هذه النظم إلى داخل بلاد العرب، وكان من الحتمي أن نصل إلى ما نلاحظه منذ قرابة نصف قرن: كثرة أسرى العرب لدى العدو وندرة أسراه لديهم، وقبولهم إذلال تبادل آلاف الأسرى المناضلين بإسرائيلي واحد أو عدد جد قليل من الإسرائيليين، واعتبار هذا الإذلال انتصارا وطنيا يستحق الاحتفال وإلقاء خطب انتصارية طنانة، على الرغم من بقاء آلاف كثيرة من الأسرى في سجون العدو، بعد كل تبادل.

من حق الخارجين من الأسر الاحتفال بحريتهم، ومن حقهم الاعتزاز بتضحياتهم من أجل وطنهم، واعتبار أنفسهم نقطة قوة رئيسية في نضال شعب فلسطين الوطني، الذي يمثل سلوك بعض تنظيماته وقياداته نقطة ضعفه، التي لم يستطع التخلص منها إلى اليوم، على الرغم من أنها «تناضل» ضد بعضها البعض أكثر مما تناضل ضد العدو، كما ظهر بجلاء خلال الاحتفالات بتبادل الأسرى التي حاول كل طرف ضمها إلى رصيده الخاص، في مواجهة وعلى حساب منافسيه، ذلك أن حماس رأت في تحرير الأسرى مناسبة تنظيمية خاصة، بينما حاول الرئيس أبو مازن أخذ حصة فتح والسلطة منها عندما أعلن أن هناك تبادلا مكافئا للتبادل الحالي سيتم بين السلطة وإسرائيل، ولأنه لم يكن متأكدا من الأمر، أضاف جملة تقول: إن التزمت إسرائيل بوعودها، على غير عادتها!

ليس هناك قضية تكشف حجم البؤس العربي الشامل كقضية فلسطين، وليس هناك سياسات تتعارض وتتضارب فيها الوقائع والأفعال الرسمية الهزيلة مع الأقوال المتبجحة كما تتقاطع وتتضارب في القضية الفلسطينية. ولأن هذه القضية في واد والسياسات في واد، فإن جسر الهوة بينهما تم خلال الصراع المديد عبر سيول من الكلمات الفارغة، التي لكثرة ما رددت سئم الشعب العربي سماعها وكره مطلقيها، بعد أن فهم الوظيفة الحقيقية لسياساتهم الفلسطينية، وعرف أنها تنصب على خوض معركة فعلية مستمرة ووحيدة لضبط الداخل وكتم أنفاسه، واضطهاده باسم معركة وهمية لا يجد العربي أي آثار لها في واقعه غير أعداد أسراه الكبيرة في سجون العدو «المهزوم»، وندرة الأسرى لدى نظمه، التي تتوسل من حين لآخر العدو كي يقبل مبادلة آلاف العرب بإسرائيلي واحد، ثم تجد في نفسها الجرأة على الاحتفال بهذا «الانتصار»، دون أن تسمح لأحد بسؤالها عن الأسباب التي أوصلت العرب إلى الأسر، ولم تأسر إلا نادرا إسرائيليين فرادى، وقبلت بقاء آلاف الأسرى بعد كل تبادل في سجون العدو، مع أن بعضهم محتجز فيها لربع قرن كامل!
يرى قادة حماس في عملية التبادل نقطة مضيئة في تاريخ القضية الفلسطينية، كما قال الأخ خالد مشعل في خطبة ألقاها في القاهرة احتفالا بالمناسبة الحماسية. بينما رأى غيرهم فيها تكيفا حماسيا مع واقع الاحتلال الإسرائيلي يستحيل أن يكون قد أنتجه انتصار وطني، نجم عن تصميم الحركة على الاحتفاظ بحكم غزة تحت أي ظرف وبأي ثمن، بما في ذلك الإقلاع عن تحدي العدو، وتبني سياسات السلطة الرسمية، مع تغطيتها بمفردات انتصارية، على غرار ما تفعله نظم التحرير الكلامي العربية!
تهانينا للأسرى.. مسكينة قضايانا الكبيرة 

السابق
يستعدان للتحليق فوق بغداد … ببالونات
التالي
حبيش: بري يخالف النظام الداخلي للمجلس