السفير: تسوية الأمر الواقع للأجور مشروع مشكلة جديدة

على بُعد ساعات قليلة من موعد الإضراب العام الذي كان مقرراً اليوم بدعوة من الاتحاد العمالي العام، وُلدت تسوية «الامر الواقع» لتصحيح الأجور على طاولة مجلس الوزراء، لتتحول سريعاً الى مشروع أزمة جديدة، سواء بسبب التداعيات السياسية التي رتبتها على العلاقة بين أطراف الأكثرية نتيجة رفض وزراء التيار الوطني الحر للصيغة الحكومية، او بسبب الاعتراضات الفورية التي صدرت عن الهيئات الاقتصادية وأطراف نقابية، فيما أبدى رئيس الاتحاد العمالي العام غسان غصن تحفظات على التسوية المعلنة، ولكنها لم تحل دون أن يعلن في ساعة متأخرة من الليل عن تعليق الإضراب.
وقد ظهرت أولى معالم التشظي النقابي عبر قرار هيئة التنسيق النقابية برفض صيغة مجلس الوزراء ودعوتها الأساتذة في القطاعين العام والخاص الى الإضراب اليوم، بالتزامن مع إعلان الاتحاد الوطني لنقابات العمال والمستخدمين عن رفضه للتسوية ومضيه في الإضراب، وعلم ان هيئة التنسيق والاتحاد الوطني يتجهان نحو تنسيق خطواتهما لمواجهة ما حصل.
وكان مجلس الوزراء قد قرر جعل الحد الادنى للأجور 700 ألف ليرة، وزيادة 200 ألف ليرة للأجر الذي يقل عن مليون ليرة و300 ألف للأجر الذي يتراوح بين مليون ومليون و800 ألف (من يتقاضى ما يفوق مليون و800 الف ليرة، لن يستفيد من الزيادة!)، ورفع بدل النقل ألفي ليرة من 8 الى 10 آلاف ليرة يومياً، والمنحة المدرسية من مليون ليرة الى مليون و500 ألف، اضافة الى عقد اجتماع سنوي للجنة المؤشر يبدأ في كانون الثاني من كل سنة، واعادة احياء المجلس الاقتصادي والاجتماعي.
وبرغم ان المشهد الخارجي أوحى بان المفاوضات كادت تنهار أكثر من مرة أمس، إلا انه كان هناك ما يشبه الخطوط الحمراء «الضمنية»، المرسومة تحت جمر الأزمة، وأهمها ان الضغط النقابي على الحكومة محكوم بسقف وضوابط، وانه من غير المناسب في هذا التوقيت إحراجها بإضراب عمالي عام يضعفها ويوحي باهتزاز الارض التي تقف عليها، في حين أن خصومها الكثر يتربصون بها وينتظرون بفارغ الصبر سقوطها اليوم قبل الغد.
من هنا، بدا واضحاً حرص بعض أقطاب الأكثرية على الحؤول دون قطع الخيط الرفيع الذي يفصل بين الضغط على حكومة الرئيس نجيب ميقاتي وبين «كسرها»، فكان السعي الى إيجاد تسوية تحقق الحد الأدنى من مطالب العمال وتعفي مجلس الوزراء من رسائل الشارع، بحيث «لا يموت الذيب ولا يفنى الغنم»، خصوصاً ان هناك من استشعر ان بعض «صقور» الهيئات الاقتصادية بدا خلال المفاوضات أمس متشدداً جداً، انطلاقاً من نيات سياسية مضمرة، كانت ترمي الى الدفع نحو إفشال الحوار لجر الاتحاد العمالي الى تنفيذ الإضراب، من أجل توظيفه في السياسة وإظهار الشارع ضد الحكومة.
«العوارض» السياسية
وكما أن لكل تسوية «عوارضها»، فإن قرار تصحيح الأجور رتّب أضراراً سياسية جانبية داخل البيت الأكثري، تمثلت في اعتراض وزراء التيار الوطني الحر خلال جلسة مجلس الوزراء على طريقة إدارة المفاوضات مع الاتحاد العمالي والحصيلة التي أفضت اليها، معتبرين ان الحكومة استخدمت المسكنات لمعالجة الأزمة، على حساب حل متكامل وضعه وزير العمل شربل نحاس.
وقائع «المخاض»  
وفي حين أخذ ميقاتي بصدره مسؤولية الدفاع عن قرار مجلس الوزراء وتحمل تبعاته، على مختلف الصعد، كان بري يتولى منذ الصباح قيادة
«كاسحة الألغام» لتسهيل تنقل الافكار الساعية الى إيجاد كوة في الجدار، فالتقى بداية في عين التينة وفد الهيئات الاقتصادية، وخاض معه نقاشاً صعباً وسط إصرار الهيئات على التمسك بزيادة الـ80 ألف ليرة. اقترح بري صيغة أخرى قوامها زيادة 250 ألف ليرة لراتب تحت المليون ليرة، و150 ألفاً للراتب فوق المليون، إضافة الى رفع بدل النقل والمنح المدرسية، طالباً من أعضاء الوفد البحث فيها واتخاذ موقف منها، ثم غادر قاعة الاجتماع لارتباطه بموعد مسبق فيما واصل وفد الهيئات مداولاته.
في هذا الوقت، كان وفد الاتحاد العمالي العام برئاسة غسان غصن يصل الى عين التينة، آتياً من قصر بعبدا، حيث التقى الرئيس ميشال سليمان. طلب بري من مساعديه استقبال الوفد، على ان يجتمع به لاحقاً بعدما يحصل على الرد النهائي من الهيئات الاقتصادية. دخل رئيس المجلس مجدداً الى الغرفة التي استقبل فيها ممثلي الهيئات الاقتصادية، وسألهم رأيهم في الطرح الذي اقترحه، فأبلغوه ان لديهم ملاحظات على بعض البنود وسط تشدد أبداه بعض الحاضرين، فيما بدا الوزير الأسبق عدنان القصار الأكثر مرونة.
أصرّ بري على وجوب إيجاد حل، حتى لو تطلب الامر ان يجمع الهيئات الاقتصادية والاتحاد العمالي في اجتماع واحد، فاستمرّ شد الحبال التفاوضي، الى ان عرض رئيس المجلس زيادة 200 ألف ليرة بدلاً من 250 ألفاً، مع تشديده على وجوب ان تأتي في سياق سلة واحدة تشمل تفعيل التقديمات الاجتماعية.
وفيما كان ممثلو الهيئات الاقتصادية يغادرون عين التينة، استقبل بري وفد الاتحاد العمالي العام، وخاض معه جولة من الأخذ والرد، انتهت الى مرونة أبداها الوفد حيال الطرح المقترح، مع إبداء تحفظ على نسبة زيادة المنح المدرسية. إتصل بري برئيس الحكومة ونقل اليه ما توصل اليه مع العمال، وأبلغه ان قيادة الاتحاد ستنتقل فوراً الى السرايا للقائه والاعلان عن الاتفاق من هناك، فطلب ميقاتي استعجال الوفد في المجيء لان جلسة مجلس الوزراء على وشك الانعقاد.
استقبل ميقاتي الوفد العمالي بانشراح، مفترضاً ان الحل قد اكتمل، الى ان حصلت المفاجأة غير المتوقعة، بعدما اكتشف الطرفان خلال النقاش انهما لا يتكلمان على موجة واحدة وان كلاً منهما قد فسّر «صيغة عين التينة» بطريقة مختلفة عن الآخر، إذ فهم ميقاتي من رئيس المجلس ان زيادة الـ150 ألفاً للراتب ما فوق المليون قائمة بذاتها ولا تضاف اليها زيادة الـ200 ألف المضافة الى راتب ما تحت المليون، في حين افترضت قيادة «العمالي» ان الزيادة تراكمية، بحيث تصبح قيمتها الاجمالية 350 ألف ليرة لمن يتجاوز راتبه المليون ليرة.
خرج وفد الاتحاد العمالي من اللقاء مع ميقاتي ليعلن عن الوصول الى حائط مسدود، مؤكداً الاستمرار في تنفيذ الإضراب المقرر. في هذا الوقت، كان بري قد خلد الى النوم في قيلولة بعد الظهر، مطمئناً الى ان طريق التسوية أصبحت سالكة وآمنة، بعد المشاورات التي أجراها مع كل الاطراف المعنية. لكن، ما ان استيقط حتى تبلغ من مساعديه ان الامور عادت الى نقطة الصفر. فوجئ رئيس المجلس بما حصل، وأجرى اتصالات عاجلة في اتجاهات مختلفة، أظهرت ان سوء تفاهم قد وقع خلال النقاش مع الاتحاد العمالي، الأمر الذي أدى الى اجتهادات متناقضة في التفسير.
وعلى الأثر، تحركت عجلة الاتصالات مجدداً على أكثر من سكة، في سباق مع الوقت الذي كان قد بدأ ينفد في ظل دنو موعد الاضراب المقرر اليوم. وبعد شد حبال تفاوضي، وُلدت فكرة إقرار زيادة مقطوعة بقيمة 200 ألف للراتب الذي يقل عن مليون ليرة، وزيادة مقطوعة بقيمة 300 ألف للراتب الذي يزيد عن مليون، ثم انطلقت حملة التسويق للاقتراح الجديد.
كان مجلس الوزراء منعقداً عندما اتصل بري بالوزير علي حسن خليل، طالباً منه ان ينقل الاقتراح الى ميقاتي وأن يقنعه بضرورة السير به. وعلى خط موازٍ، اتصل رئيس المجلس برئيس الاتحاد العمالي العام غسان غصن، وأبلغه بأن هذه هي التسوية المتاحة في هذه الظروف وانها أحسن الممكن حالياً، وان بإمكان الاتحاد في المستقبل ان يعمل على تحصيل شروط أفضل مع انتظام صدور المؤشر.
حاول غصن خلال الاتصال الهاتفي مع بري ان يُحسن في ربع الساعة الاخير شروط التسوية المعروضة، إلا انه سرعان ما اكتشف ان هذا هو السقف الأعلى الذي يمكن بلوغه في هذه المرحلة، وان لحظة اتخاذ القرار الحاسم قد دنت.
احتكم غصن الى الواقعية، ووافق على العرض، إلا انه طلب من بري إمهاله بعض الوقت لإعطاء رد نهائي بانتظار ان يتشاور مع زملائه، فيما سارع رئيس المجلس الى تكليف النقابي في حركة أمل بسام طليس إجراء اتصالات مكثفة مع ممثلي الحركة وحزب الله في الاتحاد العمالي وقيادييه الآخرين لتسهيل إنضاج التسوية. وبالفعل توجه طليس على عجل الى مقر الاتحاد حيث كانت قيادته مجتمعة، ووضعها في أجواء التطور المستجد.
في هذه الاثناء، بقي بال بري مشغولاً، خشية ان يعترض ميقاتي في اللحظة الأخيرة على المخرج المطروح، ولم يطمئن قلبه إلا بعدما تبلغ من علي حسن خليل ان رئيس الحكومة موافق، وكذلك فعل غصن الذي نقل الى رئيس المجلس استعداد الاتحاد لتعليق الاضراب..
وبعد قليل، إتصل بري بميقاتي أثناء انعقاد مجلس الوزراء، ونقل اليه حصيلة مشاوراته، وكرر على مسامعه تفاصيل صيغة الاتفاق على تصحيح الأجور منعاً لأي التباس آخر.
لكن الامور عادت وتعقدت مع اللقاء الليلي بين ميقاتي ورئيس الهيئات الاقتصادية عدنان القصار ومحمد شقير اللذين أبلغاه رفض الزيادات على شطور الاجور، ففوّض مجلس الوزراء ميقاتي مواصلة التفاوض مع الهيئات توصلاً لحل مقبول، الى ان خرجت الصيغة المعروفة الى النور والتي اختلفت عما كان متداولاً في النهار في نقطة واحدة وهي عدم شمول الأجر فوق مليون و800 ألف ليرة بالزيادة.
 

السابق
النهار: الحل: 200 ألف حتى المليون و300 حتى 1,800 والعمال علقوا الاضراب والهيئات الاقتصادية رفضت
التالي
بناء دون رخصة !!