الراي: في لبنان قلق واسع من امتداد الحدث السوري

في حين تستأثر التطورات المتصلة بالمواقف المسيحية المتعارضة من سياسة البطريرك الماروني مار بشارة بطرس الراعي بمعظم الاهتمامات السياسية في لبنان، أعربت أوساط واسعة الاطلاع في بيروت امس عن اعتقادها ان الاسابيع المقبلة ستردّ الاعتبار الى استحقاقات داخلية تعيد تهدئة المشهد المسيحي وتنقل الاهتمامات الى مرحلة حساسة ستواجهها الحكومة والحكم.
وقالت هذه الاوساط لـ «الراي» ان الاسبوع الطالع سيشهد استكمالاً لحضور لبنان في الأمم المتحدة عبر مشاركة رئيس الحكومة نجيب ميقاتي في اعمال الدورة العادية للأمم المتحدة حيث ينتظر ان يترأس غداً جلسة لمجلس الأمن يلقي خلالها كلمة، بعدما عاد رئيس الجمهورية ميشال سليمان الى بيروت.

ولكن بعد انصرام هذه المحطة التي احيت الدور اللبناني في المحفل الدولي الأرفع، سيكون على جدول الاعمال استحقاق بتّ موضوع تمويل المحكمة الدولية وحسمه بما يتلاءم والتعهدات العلنية للحكم والحكومة في احترام القرارات الدولية والتزام تنفيذها. وربما يواجه لبنان استحقاقاً اصعب اذا طرح موضوع فرض عقوبات دولية على سورية سبق للبنان ان اعلن انه لن يوافق عليها.

وتقول الاوساط نفسها ان مظهر الانقسام المسيحي الذي تجلى في مهرجان «القوات اللبنانية» في جونيه اول من امس بحضور الكاردينال مار نصرالله بطرس صفير في وقت كان فيه البطريرك الراعي يبدأ جولته في الجنوب اللبناني، اخذ ذروة وهجه وسيبدأ بالانحسار لأن الكنيسة لن تسمح بمواصلة توظيف ما ظهر من تعارضات شكلية على المستوى السياسي، وهو امر ينتظر ان تظهر معالم توضيح وبلورة له سريعاً، حتى ان هناك من استبعد صحة المعلومات التي تحدثت عن اختزال محطة واشنطن من جولة البطريرك الراعي في الولايات المتحدة وان هذه المعلومات اطلقت على سبيل جس نبض واشنطن وتحفيزها على تلقف زيارة الراعي بتحديد موعد للقاء له مع الرئيس الاميركي باراك اوباما.

وسواء حصل ذلك ام لم يحصل فإن الوضع الرسمي والسياسي الداخلي سيتجه الى محطة مختلفة في الاسابيع المقبلة يتعين فيها على الحكم والحكومة مواجهة استحقاق التمويل للمحكمة من جهة وما يمكن ان تثيره التطورات السورية من انعكاسات على لبنان من جهة اخرى. علماً ان هذه المسألة ستعيد ايضاً الى الواجهة مواقف القوى الاخرى المسيحية والاسلامية مما يجري في سورية من دون اختباء وراء المشهد المسيحي الذي تقول الاوساط انه وفّر على الافرقاء اللبنانيين في الاسابيع الاخيرة مغبة التقدم الى الواجهة.
ولفتت المصادر الى ان ما تشهده المنطقة الحدودية اللبنانية ـ السورية الشمالية في عكار خصوصاً بدأ يثير القلق الواسع من تمدد الحدث السوري الى لبنان ناهيك عن بعض الاحداث الأمنية الاخرى. ويبدو واضحاً في رأي هذه الاوساط ان مؤشر الاحداث في سورية يستدعي من القوى اللبنانية ان تبدأ الاهتمام بجدية كبرى باحتمالات انعكاس هذه الاحداث على الداخل اللبناني بغير الطريقة التي اتبعت حتى الآن.

واذا كان المشهد المسيحي وانقساماته بدا سباقاً في تلقي هذه الانعكاسات فإن دور الآخرين سيأتي ربما بسرعة سواء من خلال اختبارات جديدة ستواجه الحكومة وتضع اطرافها امام محك اختبار الحفاظ على الحكومة او من خلال معالجات امنية وسياسية واقتصادية ستشكل في القريب العاجل اختبارات لا تقل اهمية لجهة التعامل مع التطورات السورية ومنع تمددها على لبنان بما يشكل ضرراً محققاً عليه.

وكان البطريرك الراعي واصل امس جولته الرعوية في الجنوب وسط حفاوة استثنائية في استقباله في مختلف المحطات من «حزب الله» وحركة «أمل» (بزعامة الرئيس نبيه بري)، وذلك على وقع تطور يتمثل في التقارير التي اشارت الى ان وفداً من «مسيحيي الشرق» سيتوجّه من بيروت الى دمشق في الساعات القليلة المقبلة للقاء الرئيس بشار الاسد، موضحة انه بعدما كان البطريرك الراعي قرر ان يرافق الوفد المطران سمير مظلوم، عدل عن هذه الخطوة وتقرر ان يواكب الوفد مطران حلب.
وفيما كان الراعي يتجنّب اقله في اليومين الاولين من جولته الجنوبية تكرار المواقف «المثيرة للجدل» التي اطلقها من باريس ثم البقاع حيال الملف السوري وسلاح «حزب الله»، انهمكت الدوائر المراقبة في «تحليل» المشهد الاستثنائي الذي رافق ترؤس الكاردينال صفير قداس شهداء «القوات اللبنانية» والذي كان البطريرك السابق «نجمه» من دون منازع هو الذي قوبل باستقبال فاق كل التوقعات من الحشد الضخم الذي تجمّع في ملعب فؤاد شهاب وأبكى رئيس «القوات» سمير جعجع وغالبية الحاضرين.
وتوقفت الدوائر السياسية عند رمزية الاستقبال بـ «الدموع» والتصفيق وقوفاً لمَن يوصف بانه «بطريرك الاستقلال الثاني» الذي خصّه جعجع بتحية ألهبت الجماهير التي بدت كأنها تكرّم صفير وتوجّه من خلال ذلك «رسالة» الى خلَفه.
كما لاحظت هذه الدوائر ان كلمة جعجع التي قدّمت منطقاً متكاملاً مناقضاً تماماً للذي يستند اليه البطريرك الراعي ولاسيما في النظرة الى دور مسيحيي الشرق ورفض تحالف الاقليات واستدراج الحمايات «من طاغية من هنا او ديكتاتور من هناك» كما من سلاح «حزب الله»، لم يقابَل بردود من فريق 8 آذار ولا من مسيحييه، في حين اعتبرت اوساط سياسية قريبة من 14 آذار ان رئيس «القوات» عاود تصويب «البوصلة» بمواقفه التي عبّرت عن رؤية 14 آذار على اختلاف مكوناتها.
وكان لافتاً ان النائب نهاد المشنوق (من كتلة الرئيس سعد الحريري) اعتبر ان مناسبة قداس «شهداء المقاومة اللبنانية» في مجمع فؤاد شهاب في جونيه كانت «تكريما لمسيرة البطريرك صفير الشخصية والسياسية وفضله على استقلال لبنان وسيادته وهذا ما عبّر عنه الفرح العارم للحشود».

وزار الراعي ضمن جولته خلوات البياضة، يرافقه النائب طلال ارسلان الذي اصطحب البطريرك من القليعة مرجعيون حتى حاصبيا وقدم له كتابا عن عادات الموحدين الدروز.
وكان في استقبال البطريرك في الخلوات اضافة الى كبار المشايخ، الوزير وائل ابو فاعور ممثلا رئيس الحزب التقدمي الاشتراكي النائب وليد جنبلاط، ووزراء ونواب وحشد من الفاعليات.

وخلال كلمته، اكد البطريرك «التزامنا المحافظة على عائلاتنا اللبنانية المتنوعة بأديانها وطوائفها ومذاهبها، ونرجو ان نبني يوما بعد يوم العائلة اللبنانية، فالله أعطانا ثروة كبيرة هي هذا التنوع الديني والسياسي والاجتماعي»، مضيفاً «ندعو إلى تجاوز كل عقبات العيش معا. تعالوا نطوي صفحة الماضي ونتطلع الى الأمام والمستقبل، ان الله الذي كان معنا وقد بلغنا في لبنان الى مخاطر واكثر من مرة الى شفير الهاوية وفي نفس الوقت كانت يد خفية تحفظ هذا الوطن بفضل الإرادات الطيبة في كل ابنائه من كل الطوائف والتيارات السياسية».

ورحب الوزير ابو فاعور بالراعي باسم النائب جنبلاط، واعتبر أن «هذه الزيارة هي استكمال لمصالحة الجبل الكبرى، تلك المصالحة التاريخية (التي ارساها البطريرك صفير العام 2001)، ونحن واياكم في هذا الوطن الذي يجب ان يعيش على الطمأنينة والثقة بين اللبنانيين وعلى الدولة الضامنة للجميع، وهذه الخطوة تمهد لمستقبل لبناني يقوم على التفاهم والوحدة الوطنية بعيدا من منطق الأحاديات والثنائيات او الثلاثيات، طائفية او سياسية، التي لا تشكل ضمانة لأحد، بل ان الدولة العادلة والوحدة الوطنية هي ضمانة الجميع». 
وخلال ترؤسه القداس في كنيسة السيدة في حاصبيا اعلن الراعي ان «لبنان لا يمكنه ان يتخطى قرارات مجلس الامن والأمم المتحدة»، داعيا الجميع الى «النظر الى المستقبل».
اما من بلدة الخيام، فأكد الراعي أن الجميع في لبنان هم «في مصير واحد، وفي خندق واحد، وثقافة واحدة ومسؤولية واحدة»، معلناً «لن يكون سلام في العالم إلّا بالتقاء المسيحية والاسلام وهذا يرتب مسؤولية مشتركة». كما وجّه «تحية إلى كل الشهداء الذين سقطوا والجرحى والذين هُجّروا والذين قاوموا، ومن ماتوا لنحيا نحن على مذبح لبنان».

وتابع: «زيارتي للجنوب هي لتهنئة أبنائه بانتصارهم وصمودهم، وهم الذين قدموا كل شيء من أجل لبنان، فتحية لكل أبناء الجنوب الذين قاوموا وصبروا لاجل لبنان كي يبقى سيدا حرا مستقلا (…) ونحن ملتزمون مع شركائنا في الوطن حماية لبنان وتحصينه تجاه ما يتهدده من اخطار محدقة داخلية وخارجية».

ونوه بدور المقاومة في مواجهة الاعتداءات الاسرائيلية، وقال: «يجب ان نبقى متيقظين لاننا لا نزال نواجه أخطار التقسيم والتفتيت في المنطقة».
ثم ألقى نائب «حزب الله» نواف الموسوي كلمة قال فيها: «أهلا وسهلا بك يا صاحب الغبطة في هذه المنطقة وفي بلدة الخيام، هذه المنطقة التي يجثم على طرفها الجنوبي عدو لم يتوقف يوما عن تهديد لبنان بالعدوان، ومن هنا نقولها وانت قلتها في وجه رئيس دولة اوروبية كبرى لا تخشى في قولك لومة لائم».

ونوه بمواقف الراعي في فرنسا، وسأل «الذين يتباهون باقوالهم، اين حقوق لبنان في الدفاع عن نفسه واسترجاع اراضيه في مواجهة العدو الاسرائيلي؟ نحن على ثوابتنا مع غبطته لمحاربة التقسيم والحفاظ على الوحدة الوطنية وعلى الوحدات القائمة في هذه المنطقة لمواجهة ما يتهددنا».
واعلن رأس الكنيسة المارونية من بلدة العيشية انه «يجب أن نتابع إلى الأمام ونحمل ملف كل أبناء الوطن ليعود كل اللبنانيين إلى قراهم وأرضهم». وقال: «زيارتنا اليوم هي لتشجيع الجنوبيين على العودة إلى أرضهم، ولكن يجب أن نؤمن الظروف الجيدة لذلك».
في هذه الأثناء، وفي ردّ غير مباشر على مواقف البطريرك الماروني في باريس والبقاع، شدّد رئيس كتلة «المستقبل» فؤاد السنيورة على أن «المسلمين ليسوا متطرفين وأن الغالبية الساحقة من المسلمين يريدون مثلهم مثل بقية المكونات المجتمع رفع الظلم الذي لحق بالمواطنين إن كان في تونس أو ليبيا أو سورية أو مصر أو اليمن، لأن هذا الظلم لم يكن لاحقاً فقط بالمسلمين في هذه البلدان، بل لحق أيضاً بالمسلمين على كافة فئاتهم وبالمسيحيين، وأيضاً بكافة فئات المجتمع»، وقال: «إن المسيحيين في لبنان هم جزء مكون من الشعب اللبناني وشاركوا مع اخوانهم المسلمين على مدى عقود وعقود وضحوا من اجل الحصول على الاستقلال في مواجهة الاستعمار، وإنّ الظن بأن أي متغيّر في سورية سيعكس نفسه بما يسمى أحلاف مستجدة، فهو كله كلام لا اساس له من الصحة».
وفي موضوع تمويل المحكمة الدولية، قال: «التمويل اصبح ملزماً على الدولة اللبنانية، واصبح هناك دين مترتب على الخزينة. وحتى لو لم تدفع الدولة، سيكون لبنان مضطرا لدفع هذا الدين، لأنه جزء من هذا العالم وجزء من المجتمع الدولي».  

السابق
اللسلمونيلا تقفل ملحمة وفرناً بالشمع الأحمر في راشيا
التالي
القرار 1559