حكومة معالجين وأطباء!

ظهرت في مطالع التسعينيات من القرن الماضي دراسات متخصصة كانت تشير الى نسبة قياسية في تناول اللبنانيين الأدوية والعقاقير المهدئة للأعصاب فاقت الـ 75 في المئة مقترنة أيضاً بتفاقم الجريمة الفردية. كان ذلك غداة انتهاء الحرب، على غرار ما يضرب كل مجتمع يخرج من محنة مماثلة ويُمنى بالنكبات الاجتماعية والامنية والاقتصادية وما تخلفه من امراض نفسية لدى الافراد والجماعات. مع ذلك لم تبلغ ظاهرة التسعينيات المدى البالغ الخطورة الذي يشهده لبنان في احواله الراهنة، اذ جاءت جريمة عائلية جماعية حصلت قبل ايام في منطقة البسطة أشبه بإنذار متقدم الى مستوى الخطر المحدق بالوضع الاجتماعي في ظل الواقع السياسي والأمني المأزوم الذي يظلل اللبنانيين.
وحسناً فعل الرئيس نجيب ميقاتي الذي أظهر تحسساً لخطورة هذا المؤشر حين أفرد استهلالية مجلس الوزراء للتنبيه الى مغزى هذه الجريمة وسواها وربطهما بالأحوال الاجتماعية من جهة وتفشي السلاح وعدم رهبة العقاب من جهة اخرى. فعلى الاقل لم تمر دماء سبعة ضحايا من عائلة واحدة من دون ان تخرق وجدان وسط رسمي وسياسي مسيّس حتى ولو ان الناس ينتظرون أفعالاً.
والحال ان العنف المجتمعي في لبنان بات عامل تهديد للاستقرار بمنسوب يفوق بخطورته العنف السياسي، بل ان الجرائم الفردية والمواجهات الأهلية والعائلية الجوّالة أضحت بمثابة قنابل وألغام عنقودية، يشهد على خطورتها السجل الأمني ليوميات المناطق اللبنانية على اختلافها. ولعل المفارقة الشديدة الخطورة هي ان اللبنانيين لا يقيمون اعتباراً للعنف المجتمعي ولا يقفون عند مدلولاته، في حين تهتز البلاد من أقصاها الى أقصاها لمجرّد حادث صغير محدود يحمل شبهة سياسية. وهي ظاهرة تعود الى تحلل ثقافة القانون وانعدام الثقة بالدولة من جهة والشعور المقيم لدى المواطنين بأن الخطر على الأمن لا يتأتى الا من التوترات السياسية والطائفية. أما العامل الآخر الذي لا يقل خطورة في تهميش الاحاطة بالعنف المجتمعي فيعود الى الطبقة السياسية التي يكاد ينعدم لديها انعداماً مخيفاً الحس الاجتماعي، بدليل ان جريمة مروّعة كجريمة البسطة لم تجد سياسياً واحداً في أي موقع "يتنازل" عن كبائره "العالية" ليعلّق عليها، ولو لمجرّد تعليق. هذه الطبقة فطرت على غطرسة وأنانية قاتلة ومصالح شخصانية وسياسية ولا تحمل بذور ثقافة اجتماعية في حدودها الدنيا على غرار ما تعرفه الديموقراطيات الغربية العريقة التي تقوم فيها السياسة أولاً وأخيراً على الركائز الاجتماعية.
ومع "لا دولة" دائمة وطبقة سياسية متوالدة ومتناسلة بهذا النوع من الضحالة دوماً، كيف لمجتمع زاحف نحو مستويات مريعة من الفقر والإهمال الا ان يتفجر بجرائم وبغيرها من آفات مماثلة؟
ولعل يوماً سيأتي ولن يكون بعيداً سيحتاج معه لبنان برمته الى حكومة طوارئ لا تضم الا خبراء ومعالجين وأطباء نفسيين واجتماعيين من دون زيادة أو نقصان!

السابق
«14 آذار» المربكة تسأل نفسها كيف تتعاطى مع الراعي؟
التالي
نفط المتوسّط يرسم خريطة تحالفات جديدة لدول المنطقة