محمود درويش: مِنْعة الرَّمز وفَيْضُه

الحملة الشعواء التي استهدفت وبغضب دافقٍ، راغٍ وزابد، المسلسل الدراميّ التلفزيوني "في حضرة الغياب" الذي يقدّم سيرة حياة الشاعر الكبير الراحل محمود درويش، هي حملةٌ ناءت بأثقالها الناتجة عن عواطف هَوْجاء، ما أفقدها، وبوضوح لافت، الإقناع الموضوعي في أغلب جوانبها، لِما حملته من رفض كلّي قاطع لهذا العمل الفنّي، جملةً وتفصيلاً، وذلك من خلال دعوتها إلى "إعدامه" ومحوه من الذاكرة الفنيّة العربيّة، وكأنه جريمة لا تُغتفَر. فالمبالغة الحادّة والفاقعة التي اتّسمت بها الانتقادية العاصفة التي صاحبت عرض هذا المسلسل، منذ لحظة إطلاق حلقته الأولى، قد وجَّهتْ تجريحاً مستغْرباً إلى أصحاب هذا العمل، بل عمدت إلى "تكفيرهم" فنّيّاً من خلال اتّهامهم، وبعنف، بأنهم ليسوا في الموقع الإبداعي الحقيقي الذي يؤهّلهم لأن يكونوا جديرين بالاضطلاع بأعباء هذا النوع النخبوي من الأعمال الفنيّة، وبأنّهم غير مخوِّلين بتحقيق هذا الإنجاز الذي يُفترض أن المعنيّ به، أشخاص سواهم، وليسوا هم على وجه التحديد، وهذا بحسب رأس أصحاب الحملة.

نقول إننا نرفض، بتاتاً، هذا الانتقاد الإلغائي، بل هذا التّشنيع المُزري بهذا العمل وبأصحابه، بل يجب أن يكون انتقاد ما فيه من ضعف مدعَّماً بشواهد حيّة ومحدَّدة، لأنه يُفترض فيه أن يكون انتقاداً هدفه تصويب أو تعديل الكيفيّة أو الطريقة التي تُمكّننا من الاقتراب السليم والصحيح والإعزازيّ، من طبيعة رمزٍ جماعيّ أثير من رموزنا الإبداعيّة الحقة والفذّة، بدل الاستهانة والاستخفاف بـ"من تسوّل له نفسه" الاقتراب حثيثاً من هذا الرمز أو من هو في مستواه ومكانته. "في حضرة الغياب" وكما يصفه منجزوه بأنه "رحلةٌ مع محمود درويش" أي أنه مجرّد تحيّة متواضعة تُقدَّم لصاحب "لا أريد لهذه القصيدة أن تنتهي". وهذا العمل – كما نرى – هو ليس بالرداءة التي حاول مهاجموه تصويره فيها للرأي العام مع أن عرضه لا يزال في منتصفه حتى الآن. على أن من مآخذنا الشخصية على هذه "الرحلة" عدم تعريفنا بما أحاط بولادة محمود درويش كلِبنةٍ أولى وأساسية في أيّ عمل درامي يتناول سيرة ذاتيّة، كذلك لم تعرِّفنا هذه الرحلة إلى طبيعة المُصادفة التي أدّت إلى التقاء محمود بـ"ريتّا" كمقدِّمة تمهيدية ضرورية، يؤدي تطوّرها إلى أن يكونا حبيبين، مع أن هذه النقطة هي من النقاط المفصليّة في هذا العمل. 
وفي عودٍ على بدء، نقول: كنّا نتمنى أن يُظهر لنا سياق الحملة المذكورة إصدار حكمٍ مبرم، مشروع ومبرَّر، بل حتمي، على مصادر هذه السيرة التي استقى منها فريق هذا الصّنيع الفنّي وقائعها جملةً من عناصر ومعالم.
فهالةٌ إبداعية مهيبة كهالة محمود درويش ربما لا بدَّ لها من أن تُربِك من يريد الاقتراب منها، لكنّ الأكيد والواضح، أن درويش/ الرمز هو من القوّة والعمق والمنعة والدلالات يفيض بها كنبعٍ ثرٍّ، وبجاذبيّة تلقائية، لكل مَن يريد، وبإخلاص وحبّ، الاقتراب إبداعيّاً من هذا الرّمز الأغرّ الذي لا ينضب معينه لكل ظامئٍ إلى التّلويح براية إكسير التحرّر الوطني العظيم والإبداع الخالد اللذين جسَّدهما محمود درويش بشخصه وبدوره ومن موقعه المرموقين.

فليصدع بهذا الاقتراب إذن كلّ من يجد نفسه مؤهَّلاً لهذه المهمَّة الجليلة، ودون إبطاء، لأننا نعتبر أن هذا المسلسل، على علاّته ليس سوى بداية الطريق (وهو كذلك فعلاً) في هذا الاقتراب الذي يمثّل وجهاً ما من وجوه حلمنا في استمرارية إحياء ذكرى محمود درويش، الذي يقول في ديوانه الأخير: "نحن أحياء وباقون… وللحُلْم بقيّة". فالمطلوب إتمام الحُلُم إذن.
وهذا ما نريده أن يتواصل ويستمرّ مضيئاً بل مشعّاً حتّى تردُّد حشرجة الرّمق الأخير من حياتنا.
 

السابق
حادثة مجهولة المعالم: قتل والدته وإخوته الخمسة…وانتحر؟
التالي
حكومة ميقاتي هل تستمر وكيف؟