صيدا مدينةٌ لا تستهوي شبابها

تخرج من منزلك في صيدا، وتمضي باتجاه ساحة النجمة في وسط المدينة. تقف هناك لبضع دقائق، فتلاحظ العدد الكبير من الشبان والشابات واقفين أمام الحافلات المتجهة إلى بيروت، أو ما يعرف بـ"البولمان"… الوجوه نفسها تصادفها يومياً في "البولمان"، البعض يدرس في الجامعة العربية في بيروت، والبعض الآخر في الجامعة اللبنانية أو الأميركية، وآخرون يعملون في الحمرا وغيرها من مناطق العاصمة، لأنهم لم يتمكنوا من إيجاد فرص العمل المناسبة في مدينتهم صيدا.

يضطر هؤلاء للذهاب يومياً إلى بيروت، فيما البعض الآخر يفضّل السكن في العاصمة والعودة إلى صيدا في عطلة نهاية الأسبوع. أما في أوقات فراغهم، فتجدهم يجلسون في المراكز التجارية ومقاهي الانترنت، أو يدخنون النرجيلة في المقاهي المقابلة للكورنيش، وقد يذهبون للتنزه خارج مدينتهم أحياناً. واقع الشباب الصيداوي يعكس حقيقة أن المدينة لا تستهوي شبابها للدراسة الجامعية وللعمل أو حتى لتمضية أوقات الفراغ.

يتوزع شباب صيدا عادة بين مقاهيها ونواديها الرياضية ومحال الانترنت. لكن، مؤخرا، بات بإمكان هؤلاء التسوق والتسكّع في "المولات" التي ينظر إليها سكان المدينة القديمة على أنها مستجدة وطارئة، تسعى لإطاحة الأسواق الشعبية. وإذا كان البعض يجد في هذه العادات فسحة للترفيه، فإن كثيرين يذهبون إلى العاصمة بيروت للسهر، بما أن صيدا مدينة "محافظة" ولا مكان فيها لـ"روّاد الليل" إلا في رمضان، حيث السهرات المعروفة. محمود ناصر (21 سنة) شاب يعيش في صيدا، إلا أنه كواحد من أبناء جيله يفضل بيروت. يقول: "جو بيروت أحلى، وعقليات الناس في بيروت أفضل.. المحال والمطاعم تفتح على مدار ساعة، ويمكنك في أية لحظة الخروج إلى المطعم ولو كانت الساعة الرابعة فجرا، وهذا ما لا تجده في صيدا، حيث تغلق معظم المحال لحظة حلول المساء، فتنام المدينة".

قد يستمتع الشباب الغريب عن صيدا عندما يزور هذه المدينة، فيزور القلعتين البحرية والبرية وخان الافرنج والأسواق القديمة، إلا أن الشباب الصيداوي يكتفي بزيارتها مرة أو مرتين في حياته. وربما يزور بعض هؤلاء المسبح الشعبي المجاني، ولكن الغالبية تذهب إلى المسابح المتواجدة على طول الساحل، من الرميلة حتى بيروت. وفي ما يخص النوادي الرياضية، فروادها ليسوا بقليلين. الشباب يذهبون إلى النوادي الرياضية المخصصة لهم، والشابات كذلك. ويبقى "المول" والمشي على الكورنيش الأمر المشترك بين الأكثرية. هذا كل ما يمكن أن يفعله جيل الشباب الذي يتفق معظمه على أن صيدا تنقصها أماكن ونشاطات ثقافية عدة، كالمكتبات العامة، المسارح، المعارض، الندوات الشعرية والحفلات الموسيقية…
أمين حداد (25 سنة) شاب صيداوي تخرّج من الجامعة العربية في بيروت، واتجه منذ سنتين إلى المملكة العربية السعودية للعمل. حين نسأله أين يذهب في أوقات الفراغ حين يكون في مدينته، يجيب بعفوية "بطلع برّات صيدا". ويقول "لا يوجد فيها ما يرفه عن النفس غير البحر، بالرغم من أنه ملوث. أحب صيد الأسماك وقد يكون هذا الشيء الوحيد الممتع الذي يمكن أن أقوم به في هذه المدينة".

أمين نموذج لكثير من الشباب الصيداوي المهاجر الذي يزور مدينته من وقت لآخر، إلا أنه لا يبقى فيها إلا من أجل الجلوس مع الأهل والأقارب، وحين يريد الخروج والاستمتاع، يذهب إلى خارجها، وخاصة إلى العاصمة بيروت.
حمزة الريش (23 سنة) يدرس إدارة الأعمال ويعمل في شرطة البلدية في صيدا، يقول "أنا لا أقضي أوقات فراغي في صيدا، بل أذهب إلى بيروت معظم الأوقات"، متحدثا عن فئة من الشباب، تعيش فراغا اجتماعيا سببه غياب العلم والعمل، تجده في المقاهي يدخن النرجيلة.

كذلك الأمر بالنسبة لمريم نمّور(22 سنة)، وهي شابة تعيش في صيدا، وتحزن لعدم وجود أي مكان تذهب إليه في أوقات فراغها. تقول: "بالرغم من أن المدينة تحمل لقب "مدينة للحياة" إلا أنها في الواقع تفتقر للحياة. وأكثر ما يزعجني هو عدم وجود حديقة عامة تمضين الوقت فيها، أو مكتبة عامة يمكن أن نستفيد منها! لا يمكن للجميع الذهاب إلى المولات والمطاعم يومياً لأنها مكلفة".

ريما (26 سنة) ليست من محبي التسوق والتسكع بالمراكز التجارية. "أحب أن أمشي على الكورنيش وأمام الملعب البلدي أو أن أذهب إلى النادي الرياضي، فلست من جمهور التسوق والذهاب إلى المول، وليس من أمر آخر يمكن القيام به هنا..".
ومن الملاحظ ازدياد الحركة في الآونة الأخيرة، خاصة مع افتتاح مراكز تجارية كبيرة، وضمنها صالات سينما، تجذب الكثير من الشباب وتعدّ عنصر ترفيه لهم. هكذا ازدادت خيارات تمضية أوقات الفراغ بالنسبة لهؤلاء، إلا أن مشكلة قلة أماكن الترفيه والمراكز الثقافية لا تشكل إلا جزءا من هموم الشباب، التي تتعدى ذلك إلى عدم إيجاد جميع الاختصاصات في الجامعات وعدم توافر فرص العمل المناسبة لهم.

هلا الابريق، تخرجت من كلية الفنون الجميلة في الجامعة اللبنانية في بيروت، تحكي عن ذلك: "هون يللي بيشتغل بمحل تياب بيصير ريّس!". كذلك هلا الترياقي (22 سنة) المتخرجة من كلية السياحة والسفر في الجامعة اللبنانية، والتي لا ترى في صيدا مستقبلا مهنيا لها. تقول بحسرة: "ما في فرص عمل هنا.. بالرغم من أنها عاصمة الجنوب، لكن لا يوجد فيها أي فنادق أو مطاعم مهمة أو شركات سياحية كبيرة أو عالمية مثل بيروت..".
مريم التي تدرس الهندسة في الجامعة الإسلامية في خلدة تأسف لعدم وجود فرص علم وعمل جيدة في صيدا. وتضيف "كثير من الطلاب يضطرون للذهاب إلى بيروت ليدرسوا الاختصاص الذي يريدونه، لأن الجامعات هنا لا تحتوي على جميع الاختصاصات، خاصة العلمية منها". وعن فرص العمل، تقول ساخرةً: "ما في غير كش دبّان!".

رأي حمزة مشابه لرأي مريم: "إذا وجدنا فرص عمل هنا، تكون في شركات صغيرة جداً، أو ما يسمى الشركات "العائلية"، وبشكل عام كل من أراد الحصول على وظيفة، يذهب مباشرة إلى العاصمة".

وإذا كانت صيدا مدينة لا توفر فرص العمل الجيدة لشبابها، فيصبح أمرا طبيعيا أن يهجروا مدينتهم وينزحوا إلى العاصمة أو غيرها من المناطق، كما هي حال فرح النقوزي مثلا، التي تعمل في إحدى الشركات في شارع الحمراء. ففرح، كغيرها، تجد أن مدينة الحياة وعاصمة الجنوب مقصّرة تجاه جيل شبابها الذي يحق له الحصول على اختصاصات جامعية متنوعة، فرص عمل لائقة، وأماكن بسيطة غير مكلفة توفر له التسلية والترفيه، وتمكنه من رفع مستوى ثقافته ووعيه.

السابق
قصة حياتك ..مكتوبة على جبينك
التالي
قـوى اليسـار الفلسطينـي ومبـادرة لإنهـاء الاقتتـال فـي عيـن الحلـوة