عن كابوسي في لندن

لا يوجد مثل لندن في شهور الصيف. صحيح انهم يقولون ان الضباب دائم هنا لكنني أُقسم أن الشمس تظهر احيانا بزيارة ملكية. في هذه الايام النادرة تبدو الشوارع أوسع مما هي عليه في العادة، وتزين فتيات شابات المدينة بأثواب موردة وبصنادل ويبدو ان الناس اكثر ابتساما. لكن المدينة غيرت وجهها هذا الاسبوع وهناك من يقولون انها غيرته الى الأبد. ما تزال الشمس في الحقيقة عالية في السماء تسخن اوقات ما بعد الظهر الرائعة لكن الشوارع تشتعل عنفا وغضبا.

تعلمون ان الامر بدأ في السبت الاخير. فقد اجتمع عشرات في توتنهام شمالي لندن لاحتجاج هادىء على أثر اطلاق شرطي النار على شاب في التاسعة والعشرين أب لاربعة هو مارك داغن. وقالت عائلة القتيل انه ليس من الممكن ان مارك كان مسلحا وطلبت تحقيقا. وأحدث تردد الشرطة عند الجماعة المحلية شعورا بعدم وجود محاسبة وأُجري في أعقاب ذلك الاحتجاج الصامت تذكارا به.

كان يبدو في البداية ان هذا تاريخ احتجاج متوقع سلفا كذاك الذي ظهر في بريطانيا في الركود السابق في الثمانينيات في حي نيكستون مثلا. ان مشكلات بسبب الوضع الاقتصادي المضعضع في بريطانيا، وتقليصات من الميزانيات العامة مع مشكلات انتاج في مدينة كبيرة مركبة مثل لندن أفضت الى مواجهات مع سلطات الدولة. لكنه لا يُتذكر هنا في التاريخ الحديث مشهد مخيف كذاك الذي سجل خلال الايام الاربعة الاخيرة وهو يحدث في الليل خاصة.

ملأ مئات من الشباب اكثرهم من العاشرة من اعمارهم، وقلة منهم في السابعة والعاشرة، الشوارع في نقاط اكثر توقعا (أحياء التوتر العرقي مرتفع فيها دائما مثل بريكستون) وأقل توقعا (مثل الينغ برودوي وهي ضاحية خضراء هادئة) وبدأت في مواجهات عنيفة مع الشرطة التي لم تكن مستعدة كما ينبغي في البداية. يداهم الشباب شبكات مجمعات تجارية عامة وحوانيت صغيرة وينهبون كل ما يمكن جره. ويُرى الشباب من نوافذ البيوت يجرون في الشوارع وأيديهم مملوءة بالثياب الثمينة والاحذية الرياضية والمنتوجات الكهربائية. وتتحدث الاشاعات عن آباء ينتظرون الشباب وراء خطوط الشرطة لجمع الغنيمة.

نحن السكان ملازمون للنشرات الاخبارية والتويتر والفيس بوك. وقد سُرح أكثر المحليين من العمل في الخامسة بعد الظهر كي لا ينشبوا في احداث الشغب. ولم يستغل أحد منهم هذا الأصيل الجميل لشرب الباينت في حديقة الفاب المحلية. نحن جميعا نلزم البيوت نحاول ان نفهم ما الذي حدث للجيل الشاب في المملكة.

والحقيقة هي انه يصعب ان نضع الاصبع على الباعث. ما الذي يجعل آلاف الشباب يقومون باعمال نهب ويواجهون رجال الشرطة في تحد وكل ذلك مع الثقة الكاملة بأنه لا يمكن وقفهم. ليست هذه ثورة بالقدر الذي يمكن فهمه. فليس من وراء الجموع عقيدة اجتماعية. وقد حاول الساسة وآخرون أن يشيروا الى الاقتطاع من الميزانية باعتباره الباعث المثور لكن الحقيقة مختلفة.

إن جيلا كاملا من الاولاد ترعرع واستمتع بثمرات دولة الرفاه من غير فهم حقيقي لمقدار الامتياز الذي حظي به بفضل عمل ابناء جيل الاصلاح الكبير بعد الحرب العالمية الثانية. إن الاحذية الرياضية الصارخة بـ 120 جنيها استرلينيا هي مستهلك باهظ الكلفة عند أكثر سكان لندن وهي كذلك بيقين عند شاب أو شابة بلا عمل. والشباب الذين داهموا حوانيت الاحذية الباهظة السعر لم يفعلوا ذلك حفاة. وقد أشارت اعمالهم الى اختيار يثير القشعريرة لاسلوب حياة ما من غير ان يفكروا بالآثار.

ان احداث الشغب التي ألزمت اكثر المحليين بيوتهم تثير سؤالا مؤلما وهو متى ولماذا نسي الجيل الشاب العلاقة بين العمل الصعب والانجاز؟ ولماذا أصبح اكبر طموح وأصبح اختيار الحياة المهنية الاكثر شيوعا عند الشباب هو السير في طريق الشهرة أو ان يصبح الواحد ثريا؟.

في هذه الاثناء نجتمع نحن سكان لندن مع شعور جماعي أقوى مما كان دائما. ونتحدث اكثر في محطات الباصات في الاحداث وننقل معلومات عن مناطق معرضة للخطر، ويشارك كثيرون في عملية تنظيف مستقلة ويحملون المكانس ويأملون الخير. عندما ننظر الى سكان لندن الاخيار ندرك انه ما يزال يوجد أمل للمدينة.

السابق
من أمثال الشعوب..
التالي
مروان شربل: 90% من معطيات انفجار انطلياس خلافات مادية