سوريا تتألّم… ولكن ثورتها بخير!

اكتمل شهر شعبان. بعده، لن يكون للأسبوع السوري العادي أوّلاً ولا آخر. ستلتصق الأيام ببعضها لتنجب يوم جمعةٍ طويلا، يستمر شهراً كاملاً. شهرٌ، لا خصوصيّة له سوى عزم سوريين أحرار على تقديم المزيد من الدّم على مذبح الحريّة. الشهر الذي يُنعت بأنّه «فضيل»، سيكون كما كل شهر تُلتمس من هلاله ملامح إصرارٍ وعزمٍ على نيل الحريّة.

هكذا رأى منتفضو سوريا هلال «شهر الخير» فتمثلوا بالرؤيا. «التراويح» موعدهم، صلاة «جمعتهم» الطويلة. بعدها، سيخرجون إلى الشوارع. ستلمع جباههم وسواعدهم في ضوء قمر الحريّة الذي يكبر ليصير بدراً. لن يحميهم ظلام الليل، ربما لا يأبــهون بذلك. انتفــاضتهم دخــلت في شهرها الخامس ولا خوف على الجنين من وضوح الشمس ولا من ظلام ليل القتل!

ساعة الصفر
لم يكونوا وحيدين حين التمسوا الهلال. كان غيرهم يعدّ العدّة الكاملة ليستقبل رمضان على طريقته. هال هؤلاء أن يبدي شعب «صامت»، لمدة تزيد عن الأربعين عاماً، القدرة على الصراخ العالي بحنجرته ودمه منادياً للحريّة.
الدبابة تصول وتجول، ورجل الأمن و«الشبيح» معها بالطبع. يُفاجأ السوريون اليوم بـ«رشاقة» الدبابات التي دفعوا ثمنها، تتنقل بسلاسة بين مدنهم وقراهم الثـائرة، يُبدون شيئاً من «الطمأنينة» المتهكـمة والممزوجــة بالمرارة إلى «جاهزيتنا للمــعركة ضدّ العدو الصهيوني». يتحسرون، ربما، حين يسمعون قولاً أُشيع أن (أحمد فؤاد نجم) وجهه يوماً للرئــيس السوري الراحل: «الجـولان أقرب من حماه!».

أمّا حماه فتلك قصّة أخرى. ليــس تماماً، حــماه هي القصة الكاملة بأحرف كبيرة. المدينة التي تجــاوزت بنــجاح صوت التــطرف، المدينة التي لا تُشبه ولا تُشــبّه بمدن أخــرى، صارت مســرحاً لـ«الضربة الأولى». فجراً، تتلقى المدينة جواباً على تطلبها السلــمي للحــريّة: حمم من النار تهطل على الأماكن السكنيّة. يُقتل أناس في بيوتــهم، وفي الشوارع. يجف حلق «العاصــي». لا تتوقف نواعــير المديــنة عمّا دأبت على فعله منذ آلاف الســنين: تذرف ماءها دمــعاً، حين تعــبس وجــوه أهل المدينة. يتحوّل ابن المدينة وشاهد العيان فيها، بصوته المرتجف وأنفاسه المتقطعة، إلى عداد للشهداء الذين يتوالى سقــوطهم. تغــفل الأذن عن الرقم، في حين تطفو في المخيلة ملامح كلمة عصيّة على اللفظ: مجزرة!
لكن التاريخ لا يعيد نفسه. حين يجتمع الشارع السوري المنتفض على هتاف «يا حموي همّك همّي ويا حموي دمّك دمّي» و«بالــروح بالدّم نفـديك يا حماه»، يطوي التاريخ صفـحة قديمة ومهــترئة آن لها تُطوى، كما يطــوي في طريقه «نظاماً» متقادماً، ليست المطالبة بإسقاطه اليــوم سوى نوع من الإصغاء لهمس التاريخ. «نظام» يضع نفسه بيديه خارج التاريخ، حين لا يجد سوى في الجزمة العسكريّة تعبيراً عن نفسه في مواجهة الشعب.

ساعة الحسم؟!
سيبدو عسيراً فهم المقصود من عبارة «الحسم الأمني» التي تداولتــها ألسن محترفي الظهور على الفضائيات، ممن يُسمَّون عادة «أبواق النظام»، قبل أيام قليلة من دخول الانتفاضة في مرحلتها «الرمـضانيّة». ما معنى الحديث عن «الحسم الأمني» اليوم؟
وإن كان عنوان المرحلة المقبلة من تعاطي النظام مع الثورة هو «الحسم»، فما كان عنوان هذا التعاطي على امتداد أشهر الانتفاضة التي زادت عن الأربعة؟ وما الذي كانت تفعله قوات من الجيش مع آلياتها وعناصر الأمن و«الشبيحة» في كل من «درعا» و«بانياس» وتلكلخ» و«جسر الشغور» وبقية المدن والقـرى السوريّة الثائرة؟!

ليس للنظام الذي لم يُجهد نفسه في تقديم رواية متماسكة عن «الأزمة»، أن يطرح على الآخرين أسئلة تستعصي على الإجابة. إذ لا يتعدّى الحديث عن «الحسم الأمني» اليوم كونه تعبيراً واعترافاً، غير مباشرين، بفشل «الحل الأمني» بالأمس. لكن، بناء على السيرة التاريخـيّة لنظام لم يتوّرع عن تسوية مدينة بالأرض، لن يعني فشل «الحل الأمني» سوى مزيد من «الحلّ الأمني». والمزيد من ذلك، لن يقــود إلاً إلى ما سميّ «الحــسم الأمني»، ولهذا مضمون واحد لا غير: الإعلان عن الاستعداد للمزيد من القتل والاعتقال والتعذيب، مع إضافة نوعيّة يستلهمها النظام من تجربته في درعا: القصف! الحسم الأمني هو تكثيف عمليات القمع الدموي، بأشكال مختلفة، وبصورة متزامنة في أكثر من منطقة طالب أبناؤها بالحريّة وبإسقاط النظام، وهو محاولة من النظام ليس لإخماد الحراك الشعبي المتمادي بل لإخماد سوريا.. عودةً بها إلى ما قبل الخامس عشر من آذار، أي: المستحيل.

لكن، لكلّ «حسمه»، ولسوريا الثائرة «حسـمها» الذي بانت أولى ملامحه في الليلة الثانية من شهر «ثوروا تصحّوا». فعلى الرغم من الحــصار وعمليات الاعتقال والقصف وإطلاق النار العشوائي، وعلى الرغم من أن جميع الأخبار التي تناقلتها الفضائيات وصفحات التنسيقيات على «فايسبوك» كانت تبدأ بعبارة: سقوط عدد من الشهداء في… إلاّ أن التظاهرات الحاشدة التي انطلقت بعد صلاة التراويح وبعد صلاة الصبح، أكّدت أنّ الشعب الذي قدّم حتى اليوم أكثر من 1600 شهيد وعشرات آلاف المعتقلين على طريق الحريّة، قد حسم أمره على طريق واحد عنوانه: الشعب يريد إسقاط النظام.

السابق
مستشار الأمن القومي يوبـخ سـفراء الاتحـاد الأوروبـي
التالي
حكومة مدنية بمصر وضمان محاكمة عادلة لمبارك