العرب بين الاستشراق الغربي والاستعراب الياباني

 تحتم علينا الموضوعية عند الحديث عن الاستشراق التقليدي المسيس لأغراض إمبريالية أن نقوم بالتفريق بينه وبين الاستشراق الأكاديمي المحايد ذي النزعة العلمية البحتة، فقد قدم هذا الاستشراق العلمي خدمات جليلة وبذل جهداً مشكوراً قدمه على صورة مؤلفات مهمة نذكر منها

– على سبيل المثال لا الحصر – مساهمة أكثر من ثلاثمائة باحث في تأليف كتاب عن الحضارة المصرية يقع في تسعة أجزاء تحت عنوان “وصف مصر”،

وكتابات لويس ماسينيون وبول كراوس عن الطرق الصوفية، ورحلات جيرار دونيرفال وتأملاته في دنيا العرب والتي أودعها في كتاب ضخم سماه “رحلة إلى المشرق”.كذلك المشروع الفكري الكبير الذي أنجزه كبير المستشرقين الألمان جوزيف فان أيس في ستة أجزاء تحت عنوان “اللاهوت والمجتمع في القرون الثلاثة الأولى للهجرة..

تاريخ الفكر الديني في بدايات الإسلام” وهو بحث أركيولوجي – تاريخي يحفر في أعمق أعماق التراث الإسلامي، وكتاب “الموسوعة القرآنية” الذي اكتمل مؤخرا وشارك في تأليفه عشرات الباحثين من المستشرقين حيث تعرضت كل مفردة من مفردات القرآن الكريم إلى دراسة لغوية وتاريخية عميقة ومعرفة أصلها وجذرها ومن ثم ربطها بمجالها التداولي في شبه الجزيرة العربية في القرن السابع الميلادي.

يرفض اليابانيون المهتمون بالدراسات العربية إطلاق وصف الاستشراق عليهم وذلك هربا من الصورة السلبية التي خلفتها الخطايا المعرفية الكثيرة للإستشراق الأيديولوجي المسيس والمسخر لأغراض استعمارية.وترجع بدايات الاستعراب الياباني – كظاهرة علمية رصينة – إلى نهايات القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين وذلك عندما عبر رائد النهضة اليابانية فوكوزاوا يوكيتشي في مذكراته عن إعجابه ببلاد العرب لحظة مروره بأراضيها إبان رحلته إلى أوروبا عام 1861م،

كما أظهر بعض اليابانيين إعجابهم بقوانين المحاكم في مصر واقترحوا الإستفادة منها خلال سنوات 1883م – 1887م.ويميز أحد المراقبين لظاهرة الاستعراب الياباني – وهو البروفيسور مسعود ضاهر – بين أربعة أجيال من المستعربين اليابانيين من سنة 1904م إلى سنة 2004م حيث يمثل الجيل الأول مائيجما شينجي، وتوشيهيكو إزوتسوا والذي يعتبر من أوائل من ترجموا القرآن الكريم إلى اللغة اليابانية وله دراسات عدة من أبرزها “بنية المصطلحات الأخلاقية في القرآن” و”مفهوم الإيمان في الدين الإسلامي” أ

ما أهم كتبه على الإطلاق فهو كتاب “الله والإنسان في القرآن.. علم دلالة الرؤية القرآنية للعالم” ففيه توسل منهجية التصور اللغوي للعالم كأداة لفهم دلالات القرآن وهي منهجية أبدعتها اللسانيات الحديثة التي أسسها العالم النمساوي فرديان دي سوسير.ولعب الجيل الأول من المستعربين اليابانيين دورا مهما في ولادة الجيل الثاني الذي كان من أبرز رموزه البروفيسور يوزو إيتاغاكي الذي شغل منصب رئيس جامعة طوكيو الأسبق، وشارك الجيل الثاني في إعداد الجيل الثالث من الباحثين المتخصصين في الدراسات العربية وذلك عقب افتتاح قسم الدراسات العربية في جامعة طوكيو سنة 1961م، وينتسب إلى هذا الجيل نوبوأكي نوتوهارا صاحب الكتاب ذائع الصيت “العرب..

وجهة نظر يابانية” والذي أورد فيه مؤلفه أبرز المعضلات الثقافية التي تعاني منها المجتمعات العربية المعاصرة وتقف حائلا دون تقدمها ونهضتها بصراحة تثير الإعجاب.ويتميز هذا الجيل بالمعرفة الدقيقة لأحوال المجتمعات العربية ومنهم من أمضى سنوات طويلة في العالم العربي وزار معظم أقطاره،

وهناك الآن جيل رابع من الشبان المتميزين من أبرزهم هيدامتسو كوركي والذي يقوم منذ سنوات طويلة بتصوير الوثائق العربية في حلب، والباحثة اليابانية المتميزة كوريتا والتي أعدت دراسة عميقة في تاريخ السودان.إ

ن الجهد العلمي العظيم الذي يقوم به المستعربون اليابانيون في دراسة الآداب العربية والعادات والتقاليد الاجتماعية في بلداننا، والدراسات المهمة التي أبدعها مستشرقون مخلصون في فهم تراثنا الإسلامي وغربلته ونقده باستخدام مناهج النقد الفيلولوجي (اللغوي) والإبستمولوجي (المعرفي) لم تلق حتى الآن الاهتمام اللائق بها في الوطن العربي،

ولا يزال السواد الأعظم من العرب بين متربص ومرتاب بكل جهد علمي يقدمه المستشرقون في دراسة التراث الإسلامي وبين مشكك ومقلل من قيمة الانتقادات الثقافية والملاحظات الاجتماعية التي يتبرع بتقديمها عباقرة أفذاذ من المستعربين اليابانيين، ولكن لا يسعني إلا أن أذكرهم بالقول المأثور: (الحكمة ضالة المؤمن أينما وجدها فهو أولى بها 

السابق
لبنان ايضاً.. ودائماً
التالي
الرسم بالرمال الملونة في صيدا