لعبة الكلام

 يشهد لبنان صراعاً سياسياً كبيراً يحكمه الآن اللعب على الكلام والمناورة تحت عناوين وشعارات كبيرة، فيقول بعض الأطراف كلاماً ويضمرون عكسه، ويطلقون توصيفات قصدها التغطية على أمور معاكسة للمعنى الحقيقي، ويعلنون التزامات تتيح التملص منها ثم رمي المسؤولية على الآخرين.

إنها لعبة لها وظيفة واحدة هي تغطية التراجع عن تعهدات وتأمين مظلة للانقلاب على إجماعات يصعب صون الاستقرار في لبنان من دونها. وهي لعبة من فنون المناورات التي يقدم عليها من يتقنون سياسة الانتظار، انتظار حصول شيء من خارج تلك اللعبة، يقلب الأمور رأساً على عقب ويغيّر المشهد السياسي فيظهر المسرح بلاعبيه الفعليين، أو يربحون الوقت من أجل أن يقلبوا هم المشهد عندما يحين الوقت المناسب.

وإذا كانت مناقشات المجلس النيابي اللبناني شهدت، خلال الأيام الثلاثة الماضية، على جزء كبير من اللعب على الكلام، خصوصاً من قبل قوى الأكثرية، لا سيما في شأن المحكمة الدولية الخاصة بلبنان، لكشف ملابسات جريمة اغتيال الرئيس رفيق الحريري، فإن الدلالة الأساسية لسيطرة هذه اللعبة، قبل الجلسة في صوغ العبارات الغامضة القابلة لشتى التفسيرات، وأثناءها، هي أن ما جرى خارجها وسيجري بعدها سيتكفّل بتوضيح المقاصد والأغراض الفعلية من وراء هذه اللعبة، المشروعة في نظر السياسيين اللبنانيين.

وهؤلاء يعتبرون خوضهم هذه اللعبة ذكاء وفطنة، الى درجة أنهم يذهبون أحياناً الى تصديق التحايل في الكلام ولا ينتبهون الى أنها، اللعبة، تدل الى مدى الوضع الحرج الذي هم فيه، والارتباك الذي يسيطر عليهم، والقلق الذي يساورهم من الواقع الفعلي. قد تذهب بهم اللعبة الى حد تصديقها أحياناً فيبنون عليها توقعات. لكن معظمهم لا يجد حرجاً في التراجع عن الكلام، لأن جمهورهم يصدقهم في أي حال، أو يماشيهم، أو ينسى ما سبق أن قالوا، لأن ثمة عصبية تشد هذا الجمهور إليهم، أو لأن الظروف تكون تغيّرت بحيث يصبح التكيّف معها مبرراً لأي تراجع، يتفهمه بعض هذا الجمهور على الأقل.

وإذا كان أسهل الأمثلة على ذلك الإشارة الى استسهال رئيس «جبهة النضال الوطني» النيابية وليد جنبلاط القيام بالتحولات السياسية الكبرى بحكم موازين القوى وتبرير ذلك بأن «أخطأت»، فإن «حزب الله» لا يجد حرجاً في التراجع عن مواقف أو القفز فوق أخرى في لعبة الكلام، نظراً الى أنه تنظيم متماسك يسمح له وفاء جمهوره له وفائض القوة الذي يتمتع به محلياً وإقليمياً بألا يكترث لأي حسابات في هذا المجال. فالحزب قبل تشكيل المحكمة الدولية كان مقتنعاً بقيادته وكوادره أنها لن تتألف، فتألّفت، وهو كان يعتبر أنها لن تكمل الطريق لكنها استمرت وقبل بتضمينها في البيانات الوزارية السابقة وأيدها. وكان يعتبر أن العدالة من خلالها ستقوّض الاستقرار لأنها ستأتي بالفتنة، ثم عاد فأعلن رفضه المقايضة بين العدالة والاستقرار وأكد أن لا فتنة.

يستند الحزب في هذه المجافاة بين الموقف الفعلي وبين الكلام الذي يعلنه الى ثقة زائدة بالنفس على رغم أن خصومه يجدون فيه تخبطاً ودليل حسابات خاطئة تدفعه الى تعديل مواقفه والقفز فوقها.

يضاهي رئيس البرلمان نبيه بري، جنبلاط و «حزب الله» في عملية اللعب على الكلام لأنه يتقنها ويجيد المناورة هو الآخر ويتكيّف مع المتغيرات من دون خسائر كبرى، مستفيداً من موقعه في الرئاسة الثانية الذي يحتاجه فيه حلفاؤه وبعض خصومه.

ولا يأبه زعماء آخرون لفقدان الصدقية في لعبهم على الكلام.

إلا أن رئيس الحكومة نجيب ميقاتي دخل اللعبة مجرداً من حزب يدعمه ومن عصبية قاعدة جماهيرية تعوّض له ما يمكن أن يصيبه من أضرار هذه اللعبة أمام حقائق الواقع الفعلي إذا أدى الى تضييق هامش المناورة لديه… وعندها سيضطر الى الخروج من اللعبة أمام ساعة الحقيقة، لأنه سيكون مضطراً للوفاء لأي وجه من وجهي اللعبة، لأن ما قاله يحتمل تفسيرين، فإنه سيكون مضطراً الى الانحياز أو الانسحاب، خصوصاً أن ليس في الأفق أي تسوية للخلاف على المحكمة. 

السابق
هل تكون قرارات حكومة اللون الواحد وسطية؟
التالي
الحياة: الثقة لحكومة ميقاتي بعد هجومه على «14 آذار»