الأزمة السورية والمخاوف اللبنانية

صار يوم الجمعة الموعد الأسبوعي لتعاظم القلق في لبنان خاصة كما في سائر الأقطار العربية على سوريا، الدولة والشعب، وليس على النظام فيها فحسب.

ذلك أن حالة الاضطراب التي يعيشها السوريون والتي لم ينفع العلاج الأمني إلا في تفاقمها أخذت تطرح في التداول ضرورة التفكير باحتمالات خطرة كانت مستبعدة تماماً، ليس بسبب من قوة النظام فحسب بل أساساً بالاستناد إلى تجذر الإيمان بالوحدة الوطنية الذي عصم السوريين وحصّنهم دائماً فتجاوزوا الفروق العنصرية والتمايزات الطائفية والمذهبية وجعلتهم يظهرون دائماً موحدين وإن اختلفت مواقفهم في السياسة ومنها.

لكن المشاهد التي تنقلها الفضائيات (ولو مختلسة أو مشوشة) عن التظاهرات وما يصاحبها وينتج عنها من سقوط ضحايا، سواء من بين الجمهور المغضب أو من بين قوى الأمن، تجاوزت في خطورتها ما يمكن تفسيره بخطأ في التقدير أو في أسلوب المواجهة… ناهيك بمدى ارتباط الرصاص وضحاياه بحديث الإصلاح الذي يكاد يفقد دلالاته كبشرى بالانفراج والخروج من ليل الأزمة التي كان حتماً أن تصير «دولية» وأن يبادر إلى استثمارها خصوم الصح في السياسة السورية عربياً ودولياً قبل الموقف من النظام وبعده.

ومن أسف فمع كل يوم جمعة تضيف المواجهات بضحاياها نقطة سوداء جديدة إلى سجل النظام في تعاطيه مع شعبه الذي سانده وحماه في مواجهة الضغوط الدولية والعربية، بل وعزز موقعه بين أقرانه العرب فجعله قادراً على المباهاة بأنه الوحيد من بينهم الذي يتمتع بشعبية فعلية في بلاده التي كان لها ـ غالباً ـ دور يتجاوز بكثير قدراتها المادية.

هكذا ومع كل يوم جمعة، بحصيلته الدموية، يخسر الرئيس السوري بشار الأسد من رصيده الشعبي، ويتبدى وكأن «نظامه» أقوى منه، فيتصرف أركانه بخلاف ما يتعهد به «السيد الرئيس» منذ الخطأ الفادح في درعا، وصولاً إلى حديث المباشرة الفورية بالإصلاح الجذري.
ومع أن «المعارضة» في سوريا ليس لها وجود تنظيمي فاعل وليست لها هوية سياسية قادرة على استقطاب جماهير يوم الجمعة، إلا أن أخطاء الأجهزة الأمنية والتأخر في مباشرة الإصلاح وإخراج مشروع الحوار الوطني إلى النور، بما يوقف موجات التظاهر بضحاياها المتزايدة، كل ذلك يفاقم من خطورة الوضع وينذر بالأسوأ.

فلم تكن للسوريين في أي يوم، مشكلة مع دولتهم، وإن كانوا تلبثوا زمناً ينتظرون الإصلاح الذي وُعدوا به والذي يحتاجه النظام أكثر مما يحتاجون إليه، فتأخرت المباشرة به حتى بات الحديث عنه يفتقد الجدية.

بل إن التردد أو التأخر أو البطء في مباشرة الإصلاح فضلاً عن إنجازه، إضافة إلى المشكلات الاجتماعية الضاغطة والتي تفاقمت خطورة في سنوات القحط الأخيرة التي هجّرت ملايين السوريين من مناطق الجزيرة التي كانت إهراءات سوريا، كل ذلك أسهم في إيقاظ مشكلات نائمة تأخر علاجها أو حسمها بأكثر ما يجوز، فأخذنا نسمع ترداداً لمفردات لم تكن تستخدم في الجمهورية العربية السورية.

وجد من يطرح مسألة الأقليات العرقية، والأكراد على وجه الخصوص، فإذا بنبرة شبه انفصالية تطل برأسها معتمدة نموذج إقليم كردستان في العراق أو ما يقاربه كمطلب… ولقد استخدم واضعو شعارات التــظاهرات الموضـــوع الكردي عنواناً لواحدة من أيام جمعة التظاهر.
ووجد من يندفع إلى الأبعد، فيقسم السوريين إلى بدو وحضر، مخصصاً يوم جمعة للعشائر، وكأنهم «كيان» قائم بذاته خارج الشعب ودولته.

بل وُجد من يتخطى حاجز الحرم الذي كان السوريون قد اعتصموا به مبتعدين عن حديث الطوائف والمذاهب ونسبة كل منها إلى المجموع، والأكثرية والأقليات الدينية… بل وُجد أيضاً من يفصل في النسيج الاجتماعي للسوريين و»حلف الأقليات» الذي يواجه «الأكثرية».

ليس سراً أن منسوب الخوف اليوم في سوريا (ومعها لبنان، وبالتالي العراق) أعظم على النسيج الاجتماعي الداخلي… لا سيما وقد بدأت مفردات «لبنانية» و»عراقية» تغزو لغة السوريين في أحاديثهم اليومية فتزيد من مخاوفهم وقلقهم على المستقبل.
بديهي والحالة هذه أن تجد الدول الغربية في تظاهرات الاعتراض والمطالبة بالتغيير فرصة للمشاغبة على النظام السوري الذي لم تغفر له أنه قال «لا» للصلح المنفرد مع إسرائيل، وأنه جهر باعتراضه القوي على الاحتلال الأميركي للعراق، وأنه لعب دوراً تاريخياً في حماية المقاومة في لبنان ووفر لها سنداً سياسياً مؤثراً وقاعدة خلفية لها أمّنت المدد والدعم خلال جهادها الطويل لتحرير الأرض المحتلة، ثم ـ بشكل خاص ـ في مواجهة الحرب الإسرائيلية على لبنان في تموز 2006.

على أن الأخطر أن المواجهات المفتوحة مع «المعارضين» الذين كانت مطالب الكتلة العظمى منهم «إصلاحية» و»طبيعية» وتساعد في تحصين النظام عملياً، قد أخذت تنال من حصانة «الرئيس» شخصياً، فيتناول اللغط «البيت» و»الأسرة»، فهزت المكانة ولامست الحصانة التي ظل يتمتع بها «الرئيس» برغم النزف الدموي الذي رافق المطالبة بالإصلاح.
كان النقد، من قبل، يتناول الحزب الذي مات ولم يجد من يدفنه، وقيادته التي لم يتغيّر الكثير من وجوهها منذ ثلث قرن أو يزيد، (كأن الأمهات لم تلد غيرهم)، أو كأن الحزب متحف لحفظ شخوص الماضي وليس «قائد الدولة والمجتمع» كما ينص الدستور وكما تتطلب الحاجة وكما يفرض عليه واجبه لو أنه موجود وفاعل أو مؤثر حقاً.
.. فإذا ما تجاوز النقد الحزب شمل الحكومة والإدارة والأمن ووجوه الفساد العديدة، مع استثناء «الرئيس» الذي ظل مصدراً للأمل بالتغيير، خصوصاً أنه كثيراً ما تحدث عنه في الجلسات المغلقة كما في العلن، ووعد به مؤكداً أنه شرط حياة للنظام.
[ [ [
إن سوريا في خطر، ولبنان في خطر أشد خصوصاً أن مشكلاته المزمنة تجد دائماً من ينقلها من الخلاف في السياسة إلى اشتباك بين الطوائف والمذاهب بعناوين.. علمانية!
لقد تأخر النظام في سوريا بأكثر مما يجب عن إنجاز وعوده بالإصلاح التي يعرف «الرئيس» وأكثر من أي إنسان آخر ضرورتها ليس للنظام فحسب بل للدولة وللمجتمع في سوريا الذي كان مضرب المثل في صلابة تماسكه وإيمانه العميق بوطنه الذي غالباً ما لعب دوراً أكبر بكثير من قدراته المادية وأخطر بكثير من أدوار دول عربية أغنى مالاً وأوسع جغرافية وأكثر عديداً.
إننا في لبنان تحديداً نعيش حالة من القلق على وحدة الشعب والدولة عندنا قد تكون أكثر اتساعاً وعمقاً من تلك التي يعيشها الإخوان السوريون.
وإلحاح اللبنانيين على الرئيس السوري بشار الأسد بأن ينفذ تعهداته لشعبه بالإصلاح وإيقاف البرنامج الدموي كل يوم جمعة، ينبع من خوفهم على وطنهم الصغير بقدر ما ينبع من الخوف على سوريا الدولة والشعب والدور.
والداخل هو الأساس، فمتى كانت وحدته قوية ذهبت التهديدات الدولية هباء.
والكل ينتظر بعد، من الرئيس السوري بشار الأسد الكلمة الفصل التي يمكن أن تضع حداً لهذه المأساة التي تتوالى فصولها أسبوعياً وتوسع المجال أمام التدخل الأجنبي بكل مخاطره على وحدة الدولة والمجتمع وليس على النظام فحسب.
للمثال فحسب نستذكر أزمة تشكيل الحكومة في لبنان، والتي بات الكثيرون يعلقونها الآن على مشجب الأزمة السورية والضغوط الأميركية ـ المعززة غربياً ـ لإضعاف النظام بما يلغي دوره وتأثيره في الخارج لانهماكه في معالجة شجون الداخل.

السابق
السفير: مهزلـة التأليـف تتوالـى فصـولاً..العقدتان الكرامية والإرسلانية تنتظران
التالي
في حكومة… ما في حكومة!