حل أمني يقوض الحل السياسي

 ما نتائج السياسة التي اتبعت خلال نيف وثلاثة أشهر حيال الداخل السوري، وأسماها لساننا السياسي «الحل الأمني»؟. أعتقد أنه حان الوقت لطرح هذا السؤال ولمعرفة موقع أقدامنا والمآل الذي انتهت إليه خيارات السلطة، وما ترتب عليها وما يجب فعله من الآن فصاعدا لإصلاحها، أو للتخلي بالأحرى عنها، واستبدالها بخيارات أخرى مغايرة لها.
في الداخل: لو ألقينا نظرة إجمالية على وضعنا الداخلي، لوجدنا أمامنا الصورة القاتمة التالية: قوات أمن تنتشر في كل مكان من وطننا، وجيش يفرد وحداته أكثر فأكثر في الداخل السوري، ويوزعها حتى على مناطق الحراك الاجتماعي المتزايد الكثافة والانتشار، وقوى شبه عسكرية لا يفصح أحد عن هويتها وكيف ومتى ولأي غرض تشكلت، لها مكان محفوظ داخل الحل الأمني، وجمهور يخرج في مظاهرات احتجاجية مختلفة الأنواع والأحجام، تنتشر بدورها من مكان إلى آخر، بما في ذلك مناطق ترابط فيها وحدات عسكرية، قيل إنها قامت بتطهيرها من عناصر سلفية ومندسة، وبمصالحتها مع النظام، هي بصورة خاصة حوران وحمص وبانياس وتل كلخ والرستن وتلبيسة، وقطيعة سياسية وإنسانية تتزايد عمقا بين السلطة وكتل متعاظمة العدد والحجم من الشعب، وكذلك بين أطراف تنخرط انخراطا متزايدا في نزاع يتفاقم ويحتدم باضطراد متنام في الشارع، بينما تدخل الأزمة من خلال نمط المعالجة الأمنية إلى مناطق جغرافية ومجالات سياسية لم تكن فيها من قبل، أو تعبر عن نفسها من خلال تظاهرات تنتشر فيها.
باختصار، يبدو بوضوح أن الحل الأمني يؤجج أكثر فأكثر نيران الحراك الاحتجاجي، ويعجز عن إحداث التحول الذي تنشده السلطة، رغم ما تكرره تصريحاتها حول خمود الحراك أو تراجعه.
السؤال الآن هو: إلى متى يمكن ترك الجيش منتشرا على كامل الرقعة السورية، مكلفا بمهام ليست من صلب وظيفته، وفي شروط يرجح أن تجعله ضد أي حل أمني؟.
في الخارج: لا أعتقد أن سوريا وصلت في أي يوم من تاريخ ما بعد الاستقلال إلى ما هي عليه اليوم من أحوال عربية وإقليمية ودولية، أو أنها عرفت هذا الحجم من القطيعة مع مؤسسات الشرعية الدولية، ولا أعلم أن النظرة إلى نظامها قاربت ما نراه اليوم من إدانات واستنكارات متصاعدة، أو أن أمورها بلغت هذا الحد من التدخل في شؤونها، حتى ليبدو وكأن غالبية دول العالم، بما فيها الفاعلة والمؤثرة منها، قررت إخراج سلطاتها من النظام الدولي ومعاملتها كجهة يجب أن توضع تحت رقابة وثيقة، بسبب الطريقة التي تحل من خلالها أزمتها الداخلية، وجعلت أردوغان: رئيس وزراء تركيا وصديق قادتها، يعلن محدودية سيادة دولتها، بإعلانه أنه قرر التعامل مع داخلها باعتباره جزءا من الداخل التركي، في تأكيد لحجم التدخل الخارجي في شؤونها، وبسبب الانعكاسات المحتملة لأزمتها على البيئة الإقليمية والدولية، التي تحتم حلها في فترة غير مفتوحة أو طويلة، لما قد ينجم عنها من مخاطر ويترتب عليها من صراعات تتجاوزها إلى جوارها، حيث ستتحول إلى صراعات مربكة لا يحتاج إليها أحد.
ولعل ما يقال في الخارج حول وجود خريطة طريق للداخل السوري، تقوم على حل سياسي يلبي مطالب الشعب ويحقق الإصلاح الديموقراطي خلال فترة محددة – بين شهر وستة أشهر – من جهة، وإلا فوضع النظام أمام تغيير في القمة يؤدي إلى رحيل الرئيس من جهة أخرى، يؤكد الانطباع بأن البلاد تصبح موضوع تدخل خارجي متزايد، يرجح أن تتناقص قدرة أهل الحكم على ضبطه أو التملص منه، بل إن هناك من يعتقد أن النظام خسر الكثير من قدراته ومواقعه في الخارج، بسبب معركته الأمنية المتزايدة الضراوة في الداخل، وخسر معها قدرته على استعادة دوره السابق، بما أن طبيعة النظام الدولي تحتم ربط نتائج الصراع الأول، الداخلي، بالثاني، الخارجي، الذي سيصير مقررا بعد بلوغ تراكم صراعات الداخل درجة معينة من التحول، على غرار ما حدث في المثال الليبي، حيث حسم ميزان القوى الدولي المعركة الداخلية، عندما أخرج قوات «الأخ العقيد» من شوارع عاصمة الثورة: بنغازي، وطاردها إلى مقره في طرابلس، ودأب منذ ذلك الوقت على قصفها، وأجبرها على خسارة جميع معاركها في الغرب الليبي أيضا، وخاصة منها معركة «مصراته»، التي لم تضع حدا لانقسام ليبيا بين شرق ثائر وغرب موال، وأنهت احتمالات تقسيم البلاد فقط، وإنما فتحت كذلك الطريق إلى طرابلس، حيث أخذ النظام يلفظ أنفاسه الأخيرة ويتلاشى. ومع أن سوريا ليست ليبيا، ووضعها ليس مماثلا للوضع الليبي، فإن هناك مسألة فائقة الأهمية تستحق التأمل، تتصل بحجم الاستنزاف الذي تتعرض له قدرات النظام وأجهزته في الداخل، وما إذا كان سيبقي له قدر من القوة يمكنه من استعادة دوره كلاعب تتخطى سياساته وحساباته حدوده، أم أنه سيبلغ حالا من الضعف يتيح للخارج اقتناصه وصولا إلى إعادة صياغته، وربما تغييره وإسقاطه؟
باختصار، لم يعد الحل الأمني بالنتائج التي أريد له تحقيقها، لأسباب أهمها:
1 ـ أنه بلا فسحة زمنية مفتوحة، على عكس ما كان متاحا لحل 1980 الأمني، الذي حظي بتغطية دولية واسعة وتم في ظروف داخلية ملائمة – اقتصار الحركة على مدينة واحدة أو مدينتين، عزلة كتلة المدن الصامتة عن الريف الموالي، حياد النخب الجديدة وخوفها من الأصولية الإسلامية… الخ -. ليس الهامش الزمني المتاح للحل الأمني مفتوحا. هذا ما كان واضحا منذ البداية، والغريب أن من اعتمدوه لم يأخذوا هذه النقطة الجوهرية جدا بعين الاعتبار، رغم ما أطلق من تصريحات حول هذه النقطة بالذات، ربما لأنهم لم يروا التشابكات الداخلية والدولية التي تجعل تطبيق الحل الأمني مقيدا: سواء من حيث حجم القوة المستخدمة فيه، أو في ما يتعلق بزمنه. لم ير هؤلاء أيضا الآلية التي كان واضحا أنها ستترتب عليه، نتيجة لاختلاف الحاضنة المحلية والدولية، التي ستجعل تطبيقه يستفز مواقف دولية مضادة ستستدعي استخدام قدر متزايد من القوة في الداخل، رغبة في حسم الصراع خلال أقصر وقت ممكن، مما سيتسبب بدوره في مزيد من التصعيد الدولي، والحراك الاحتجاجي، الذي سيصعد مطالبه بدوره مستفيدا من المواقف الدولية الملائمة. إنه حل يستدعي المزيد من الاحتجاج، الذي يستدعي المزيد من الضغط الدولي، وبالعكس. فإذا ما استعدنا الآن صور التظاهرات المتجددة في المناطق التي شهدت تطبيق الحل الأمني، أدركنا أن الأمور بلغت مأزقا يتطلب الخروج منه وقف هذا الحل والرجوع عنه، لأن المزيد من تطبيقه لن يفعل شيئا غير تأجيج وتوسيع مناطق الاحتجاج وزيادة أعداد المحتجين، وتعاظم العزلة وقيام الخارج بمزيد من التدخل في الشأن السوري، وبالتالي خلق ميزان قوى داخلي يصعب على السلطة السيطرة عليه، تفلت خيوطه أكثر فأكثر من أيدي الممسكين بزمامها.
2 ـ أن حركة الاحتجاج ليست أمنية فيكون حلها أمنيا، بل هي سياسية / اجتماعية تتصل ببنية للشأن العام، لا تنفع معها المعالجات الأمنية، وتتطلب تلبيتها مراجعات جدية للواقع السياسي والاجتماعي القائم، وحلولا شاملة ومن طبيعة استباقية لمشكلاته الكثيرة والمـعقدة، تحدث تحولات جدية داخل النظام تطاول هياكله آليات اشتغاله وممارساته، تنطلق من حقيقة رئيسة هي أن نمطه الراهن لم يعد مرجعية يمكن بالانطلاق منها إيجاد حلول لأزمات البلاد ولأزمات نظامها ذاته، فلا بد من بديل لها، من مرجعية جديدة تتمثل في نظام حرية وعدالة اجتماعية ومساواة، وتاليا ديموقراطية.
بكلام آخر: يعالج الحل الأمني الأزمة حيث لا توجد. يتصدى لنتائجها لا لأسبابها، ويستخدم وسائل لا تنفع في علاجها، ولا تزيلها، بل ويقيد قدرة النظام على معالجتها حيث هي: على صعيد السلطة وعلاقاتها مع المواطن والدولة والمجتمع. لذلك يؤدي الإمعان فيه إلى تعقيدها وإطالتها وإرجاء حلها وإضافة عوامل جديدة إليها، ولا ولن يؤدي إلى حلها، حتى في حال حقق انتصارا كاسحا على الحراك الاحتجاجي، ما دام انتصاره يعني خروج السلطة، التي قهرت مجتمعها بالعنف، مهشمة بسبب الإفراط في استخدامه ضد من يفترض أنه حاملها الاجتماعي والسياسي: شعبها ومواطنها.
المشكلة أن من يؤيدون هذا الحل يعتقدون بضرورة الحفاظ على النظام الحالي كمرجعية، ويؤمنون بعدم جواز تغيير النظام وبحتمية مواقف المطالبين بذلك. ولعل ما يقدم اليوم من مشاريع حوار وطني يستهدف امتصاص سلبيات الحل الأمني دون إيقافه، في إقرار مضمر لفشله الأولي، أو بالأصح لاستحالة أن يقدم بمفرده المخرج المطلوب. بينما تنصب مطالب جميع من هم خارج السلطة على وقفه التام والتوجه نحو نظام انتقالي يكون مرجعية أي حل وطني مقبول، ومصلحة مؤكدة لجميع مكونات الحقل السياسي السوري، بما في ذلك السلطة.
3 ـ تصاعد الحراك الشعبي وانتشاره إلى جميع المناطق، وتصاعد مطالبه، التي تبدو كأنها تغلق أبواب أي حل وسط سياسي وتراهن على دفع النظام إلى التمسك بالحل الأمني، ما دامت نتيجته المزيد من العزلة الخارجية، والضغط الدولي، والتصعيد الداخلي، وما دام ينجب خلال تطبيقه المتزايد الشدة، ردود أفعال دولية وإقليمية من طبيعة تدخلية مفتوحة على احتمالات قد تحول الأداة الأمنية، من وسيلة لإنقاذ النظام، إلى حاضنة لاستنزافه وإنهاكه، وقد تشق صفوفه وتضعها بعضها في مواجهة بعضها الآخر، خاصة بعد أن يتأكد فشله ويظهر أنه حل مهلك، وأن تطبيقه لن يؤدي إلى نتائج إلا إذا كان ضرب الماء بعصا يؤدي إلى نتائج.
ليس الحل الأمني حلا بأي معنى من المعاني. إنه يفتقر إلى الأدوات الملائمة لمعالجة الأزمة العامة القائمة، ويقوض قدرات النظام وعلاقاته الخارجية، ويعطي خصومه الخارجيين فرصة ذهبية لعزله واصطياده وحسم أمره، ويطوي صفحة استقلاليته في الداخل والخارج.
هل يجوز الآن استمرار نمط المعالجة التي يقدمها، إذا كانت قد بدأت مؤخرا تسد أبواب الحل السياسي، ويجعل ما سمي «الحوار الوطني» حراكا بلا مصداقية، ويشق النظام وتعطل قدرته على معالجة الأوضاع، ويفضي في كل مكان إلى عكس ما كان يعد بتحقيقه؟ هذا هو السؤال الذي يطرح نفسه اليوم على مختلف أطياف الحقل السـياسي السوري، وتحديدا منها السلطة، التي تجد نفسها أمام بابين مواربين يوشكان على الانغلاق التام: حل أمني يفضي إلى تعميق الأزمة وتأجيجها، وإصلاح سياسي محتجز يمعن في تسعير نيرانها، يعزز وجودهــما الانطباع بأن في سوريا أزمة سلطة أيضا، وأن من يمسكون بخيوط الأوضاع ليسوا على موقف واحد، رغم خطورة المعضلات التي يواجهونها، وفشل أسلوبهم التقليدي في معالجتها، الذي قام إلى الأمس على إدامتها لأطول فترة ممكنة، قبل حلها على حساب الشعب وإنتاج أزمة جديدة تدار العلاقات معه من خلالها، وصار شديد الضرر اليوم.
لم ينجح الحل الأمني ولن ينجح، حتى إن تمت تغطيته بـ«حوار وطني شامل». بدوره، لن يقوم حوار وطني ناجح قبل وقف الحل الأمني واعتماد حل سياسي يمثل خيارا وطنيا جامعا يأخذنا إلى طور انتقالي، هو مسار حرية ينتهي إلى نظام ديموقراطي يقيمه السوريون من خلال شراكة شاملة في زمن يتراضون عليه.
هل هذا ممكن وواقعي؟ أعتقد أنه الممكن الوحيد المتاح في وضع يحكمه أكثر فأكثر سقف زمني منخفض ويزداد انخفاضا، وتوسع مطرد في العنف يقابله اتساع متعاظم في الاحتجاج، قد ينتج قدرا مقابلا من عنف مضاد يسهم بدوره، ولزمن طويل، في استحالة أي حل يبقي على سوريا التي نحبها وطنا لجميع بناتها وأبنائها، مواطناتها ومواطنيها!
 

السابق
الحكومة المفترضة محكومة بطابع انتقالي
التالي
النهار: التأليف ينتقل إلى عقدة سنية – أرسلانية