من البقيعة شمالاً الى مارون الراس جنوباً تضيع الحكومة في مهب الإضطراب الاقليمي المفتوح على تحولات دراماتيكية في المنطقة التي تبدو وكأنها فوق برميل من المتغيرات التاريخية. نزوح سوري من تلكلخ الى وادي خالد في ترابط لا يحتاج الى أدلة بين ما يجري في سورية وما يجري في لبنان. وزحف فلسطيني "الشكل" وأبعد من ذلك في المضمون في إتجاه الحدود الجنوبية من بوابة مارون الراس، في مؤشر لا يحتاج الى اشارات عن الأسلحة الاحتياطية في لحظة "الفرز والضم" في المنطقة.
ولم يعد غريباً في ظل هذه "الورطة" الضياع اللبناني الذي يعبر عن نفسه في المأزق الحكومي المتمادي، كواحد من تجليات الإرباك الذي تعانيه في الدرجة الاولى مكونات الحكومة التي لم تبصر النور رغم مرور اربعة اشهر على تكليف الرئيس نجيب ميقاتي تشكيلها من "الأكثرية الجديدة" التي اطاح انقلابها بحكومة سعد الحريري، في تطور اقليمي ـ محلي إصطدم بانفجار ثورات العالم العربي التي دهمت سوريا حاضنته الاقليمية التي تحتاج الآن الى من … يحضنها. والمثير في هذا المشهد ان المأزق الحكومي الذي يتجاوز في عمقه وأبعاده عملية تشكيل الحكومة يكاد ان يسجل "ضد مجهول" لكثرة الاتهامات المتبادلة ولتناقض المقاربات وتضاربها حول الاسباب الفعلية لبقاء لبنان من دون سلطة في لحظة اقليمية بالغة الخطورة وتحتاج لحال طوارئ سياسية شبيهة بتلك التي يصار الى اعلانها في مواجهة الكوارث الطبيعية والزلازل والفواجع الوطنية، فما نواجهه ربما يكون ادهى. فمن غرائب طباع المرحلة اللبنانية الحالية هو إختلاط الحابل بالنابل، فمن الكلام بمكبرات الصوت تارة عن لا مبالاة سورية وتارة اخرى عن ضغوط دمشق للإسراع في تشكيل الحكومة، الى الاتهامات بـ "الخط العريض" لأميركا بالعرقلة ورفع البطاقة الحمراء في وجه الرئيس ميقاتي … سيل من التفسيرات المتناقضة للأسباب الكامنة وراء احتجاز حكومة الفريق الواحد واللون الواحد. تفسيرات من هذا النوع سرعان ما تهبط الى مستوى التراشق باتهامات تتناول الحصص والحقائب والاسماء في تظهير لحجم أزمة الثقة بين مكونات الحكومة من جهة والصراع غير الخفي على الامساك بقرار الحكومة، وتالياً بدفة الحكم في البلاد. فمن الكباش على المعادلة الرقمية للأحجام التي تجعل من الحكومة "حكومات متصارعة" الى الصراع على حقائب بعينها، مروراً بكل "شاردة وواردة".ومن يدقق في طبيعة هذا النوع من الصراع يكتشف ما هو ابعد من "القطبة المخفية" في محاولة الامساك بالسلطة، تارة في سياق "حق النقض" وتارة اخرى في اطار العمل على التحكم بقرارها، وفي الحالتين بهدف تغيير طبيعة الحكم وتركيبته. فالكلام عن "الماروني السادس" في الحكومة "المرتقبة" يذكر بكلام مماثل قيل ايام تشكيل حكومة سعد الحريري عن "الشيعي" الحادي عشر، الذي تحول لغماً اسقط الحكومة وأطاح بها. في غمرة هذه الصراعات المتعددة الهدف تنشط ماكينات "التحليل والاستنتاج" التي تعاين مواقف مكونات الحكومة و"معسكراتها" … رئيس الجمهورية ميشال سليمان ومعه الرئيس ميقاتي يتهمان وبالمباشر العماد ميشال عون بمحاولة الاستيلاء على الحكومة وجعلها مجرد "اختام" للتخلي الطوعي عن صلاحياتهما وعن السلطة لمصلحة مشروع أحادي رأس حربته العماد عون. وما لم يقله سليمان وميقاتي هو ان الحرب التي يشنها عون لـ "إلقاء القبض" على الحكومة تتم بعضلات "حزب الله" ولحساب محور اقليمي، الامر الذي من شأنه الاتيان بحكومة مناهضة لـ "نصف اللبنانيين" وللشرعيتين العربية والدولية. وما يقوله عون ومعه "حزب الله" لا يقل "ضراوة"، فهما يحملان الرئيس سليمان مسؤولية عرقلة التشكيل لحسابات "مسيحية" وغيرها، والرئيس ميقاتي لحسابات "مالية" ودولية على حد سواء. والأكثر اثارة في هذا السياق ان الرئيس نبيه بري "الشريك المضارب" يحاول تقليل خسائره بمحاولة "تمايزه" على طريقة "قربت تنحل"، اما النائب وليد جنبلاط فله حسابات اخرى تتجاوز الحكومة والصراع عليها. وسط هذه المعطيات من غير المستبعد إستمرار الفراغ الذي من شأنه "إجتذاب" مظاهر الفوضى والتفكك، وكأن البلاد تتجه نحو سيناريوات إما "محسوبة" وإما على طريقة الهروب الى الأمام، والأمر قد يكون سيان.