
في هذه اللحظة، يقف رجل طويل القامة، بانحناءة طفيفة، أمام نافذة شقته الفاخرة في أحد أبراج «موسكو سيتي» في حي الأعمال الشهير في العاصمة الروسية، يحدّق في الأفق بنظرة يملؤها الحنين. منذ شهرين، اعتاد بشار الأسد على هذا المشهد، لكنه لم يجد فيه الراحة. السماء الرمادية للعاصمة الروسية تزيد من كآبته، فيما النهر المتدفق أسفل البرج يعيد إلى ذاكرته القصر الدافئ في دمشق، طوابير الجنرالات، والبلاد التي كانت ملكًا له بالكامل.
بين جدران الشقة، يدرك الأسد حقيقة وضعه الجديد: رئيس بلا دولة، لكنه ليس بلا نفوذ. قد يكون ممنوعًا من العودة إلى دمشق، لكن المال الذي جلبه معه لا يزال يمنحه فرصة للعب دور في الظل. بينما يخضع لحماية مشددة، ويراقب بحذر، فإن مستقبله ومستقبل أسرته لا يزال رهينة للعبة المصالح الروسية.
لكن، «لا داعي للشفقة على الرئيس السوري المخلوع»، فكما يقول أحد الصحفيين المقيمين في موسكو، الذي تابع عن كثب تفاصيل حياته الجديدة، عبر تقرير نشره أريئيل بولشتاين في صحيفة «يسرائيل هيوم»: «لو كان معمر القذافي قادرًا على الاختيار، لفضّل مصير الأسد».
ففي حين انتهى القذافي في مجاري الصرف الصحي، وسط الإهانة والدماء، حصل الأسد على فرصة للفرار، حاملاً معه ما يكفي من المال لحياة مريحة لكنها ليست خالية من القلق.
ثروة الأسد: مفتاح البقاء
يرى الصحفي أن الأسد لم يكرر أخطاء القذافي، ليس فقط لأنه هرب في الوقت المناسب، ولكن لأنه خطط مسبقًا لحياته في المنفى. فبينما كان لا يزال رئيسًا لسوريا، عمل الأسد على شراء العقارات في موسكو عبر أقاربه وشركاته الخاصة.
على مدى السنوات الماضية، اشترت عائلته ما لا يقل عن 19 شقة في «موسكو سيتي»، كل واحدة منها تكلف ما لا يقل عن مليوني دولار، وبعضها أغلى بكثير. لم يكن الهدف مجرد استثمار مالي، بل كان بمثابة تذكرة دخول إلى نخبة المجتمع الروسي.
وفقًا لمصادر الصحفي، فإن الأسد لم يأتِ إلى روسيا خالي الوفاض. فقد قام بتهريب مبالغ ضخمة على مدى سنوات، وصلت إلى 250 مليون دولار نقدًا، تم نقلها إلى موسكو عبر أكثر من 20 رحلة جوية. كانت هذه الأموال، التي تزن قرابة طُنين من الأوراق النقدية، الضمانة الوحيدة لعيش الأسد حياة الأثرياء بعيدًا عن وطنه الذي فقده.

الحماية الأمنية المشددة
رغم حياة الرفاهية التي يتمتع بها الأسد، إلا أن مخاطر اغتياله لا تزال قائمة. وفقًا للصحفي، فإن جهاز الأمن الفيدرالي الروسي (FSB) يتعامل مع حماية الأسد بجدية بالغة.
«نصف الـFSB مكلف بحماية الأسد»، هكذا قال أحد المصادر، مشيرًا إلى أن الكرملين لا يمكنه المخاطرة بتعرض الأسد للاغتيال داخل الأراضي الروسية.
لكن، من قد يحاول استهداف الأسد في موسكو؟ الجواب: الجهاديون الذين قاتلوه في سوريا. فالمقاتلون الأجانب، خاصة من أوزبكستان وطاجيكستان، الذين انضموا إلى الجماعات الإرهابية مثل «داعش»، لا يزالون يشكلون خطرًا حقيقيًا. دخولهم إلى روسيا لا يتطلب تأشيرة، مما يجعل أي هجوم محتمل سهل التنفيذ.
وقد سبق أن شهدت موسكو هجومًا إرهابيًا كبيرًا في آذار 2024، عندما فتح أربعة مسلحين النار في مركز «كروكوس سيتي هول»، مما أسفر عن مقتل 144 شخصًا. ورغم محاولات السلطات الروسية ربط الهجوم بأوكرانيا، إلا أن الحقيقة كانت أن المنفذين ينتمون إلى تنظيم «داعش – ولاية خراسان».
في ظل هذه المخاطر، لا يُسمح للأسد بالخروج إلى الأماكن العامة، وهو ما يفسر اختفاؤه التام عن المناسبات الاجتماعية الفاخرة في موسكو.
مرض أسماء الأسد: حرب جديدة في المنفى
بينما يعيش الأسد في موسكو وسط إجراءات أمنية مشددة، تواجه زوجته أسماء الأسد معركة أكثر خطورة: اللوكيميا (سرطان الدم).
وفقًا للتقارير، فإن حالتها الصحية تدهورت بشكل كبير، وهي تخضع حاليًا للعلاج في أحد أرقى المستشفيات في موسكو، حيث وُضعت في عزلة تامة لتجنب تعرضها لأي عدوى، نظرًا لضعف جهازها المناعي.
حالة أسماء الصحية قد تكون أحد الأسباب التي أبعدت الأسد عن أي نشاط اجتماعي، إذ أن العائلة تعيش في حالة قلق دائم بشأن وضعها الصحي، في وقت يحاول فيه الأسد تأمين مستقبل أبنائه في موسكو.

الوريث: حافظ الأسد الابن
وسط هذه الظروف، يتطلع الأسد إلى ابنه حافظ ليحمل إرث العائلة. أنهى حافظ دراسته في جامعة موسكو الحكومية في تشرين الثاني الماضي، وحصل على الدكتوراه في الرياضيات. ورغم أن تخصصه علمي بحت، إلا أن دوره المستقبلي في إدارة ثروة العائلة يبدو واضحًا.
في عام 2022، أسس ابن خال الأسد، إياد مخلوف، شركة عقارات في موسكو، وهي واجهة لاستثمارات العائلة.
«فقط الأعمى هو من لا يدرك من هم الملاك الحقيقيون لهذه الشركة، ومن أين جاء رأس المال»، يقول الصحفي، في إشارة إلى الأموال التي هُربت من سوريا إلى موسكو.
حافظ، الذي كتب أطروحته باللغة الروسية، شكر في مقدمتها والديه بشار وأسماء، لكنه لم ينسَ ذكر «شهداء الجيش السوري»، ما يؤكد ارتباطه الوثيق بنظام والده رغم المنفى.
«نادي الديكتاتوريين المخلوعين» في موسكو
موسكو ليست ملاذًا للأسد وحده. فهو اليوم جزء مما يطلق عليه «نادي الديكتاتوريين المخلوعين»، والذي يضم أيضًا الرئيس الأوكراني السابق فيكتور يانوكوفيتش، الذي فرّ إلى روسيا بعد سقوط نظامه عام 2014.
ورغم أن بوتين لا يرغب في الظهور علنًا مع «الخاسرين»، إلا أن روسيا توفر لهم الحماية والفرصة لممارسة الأعمال التجارية.
«ابن يانوكوفيتش أصبح أكثر ثراءً بعد لجوئه إلى روسيا»، يقول الصحفي، مشيرًا إلى أن عائلة الرئيس الأوكراني المخلوع أصبحت تدير تجارة الفحم من المناطق التي تحتلها روسيا في أوكرانيا، وبيعها إلى دول مثل تركيا ومنها إلى الأسواق العالمية.
في حين أن الأسد لم يكن شريكا في تجارة الفحم، فإن الأموال التي هُربت من سوريا ستسمح له بالدخول في مجالات تجارية مربحة داخل روسيا، مستفيدًا من علاقاته مع النخبة الروسية.