أقحم “حزب الله” لبنان في حرب غزّة قبل اكثر من عام في 8 من أكتوبر عام 2023، غير آبه بأصوات الاعتراض الداخلية والخارجية التي توقعت أن تؤدي إلى انفجار حرب شاملة على نسق حرب تموز عام 2006، وهو ما حصل وبشكل أسوأ بكثير، وتسببت بكارثة حلّت بالحزب نفسه الذي خسر أمينه العام التاريخي السيد حسن نصر الله، وغالبية القيادة العسكرية والأمنية أيضاً.
ولكن يبقى السؤال: لماذا أُدخل “حزب الله” في هذه الحرب التي يبدو أنه لم يكن مستعداً لها، وهل فُرضت هذه الحرب عليه من ولي الفقيه الإيراني السيد علي خامنئي، أم اختارها الحزب طوعاً؟
السيد نصرالله هاجسه في كل حركته السياسية أن لا ندخل في حرب شاملة مجددا مع اسرائيل على نسق حرب تموز 2006
في حديث شخصي قبل حوالي عامين، غير منشور لأحد قياديي “حزب الله” مع فريق من الاعلاميين ( وهو رجل دين ييقى أسمه طي الكتمان)، وهو ما زال حيّا يرزق، قاله بوصفه رجل دين ايضاً ومقرّب من الأمين العام الراحل، صرّح وقتها بالحرف: “إن السيد نصرالله هاجسه في كل حركته السياسية، أن لا ندخل في حرب شاملة مجددا مع اسرائيل على نسق حرب تموز 2006، فهو يعنيه جداً أمن الناس وسلامة بيئته”.
وأضاف في الجلسة عينها، ان “السيد نصرالله قال له ايضا في احدى حواراته معه حول المعارضة الشيعية “تعلم يا شيخ أن مسيرتنا محفوفة بالأخطار، وربما يحتاج الشيعة اللبنانيون أن يرسمو خطاً سياسياً آخر، كي يحفظهم في حال ضُربت مسيرتنا وتوقفت”!!
لا شك أن ما قاله القيادي الكبير في الحزب أثناء اللقاء مع ثلاثة إعلاميين معارضين، تم التوقف عنده كثيراُ، ويبدو ان المضيف قصد أن يفهم الحاضرين ردا على تساؤلاتهم، ان “الحزب لا يغامر بالشيعة كما تتهمونه ويهمه امنهم ومستقبلهم كما يهمكم ايضا”!
حرب اسناد غزة
ولكن رغم هذه التطمينات، فقد اعلن “حزب الله حرب اسناد غزة بعد حوالي عام من تاريخ اللقاء، وبعد ايام من هجوم “طوفان الأقصى” الحمساوي عن مستوطنات غلاف غزة، باغت فيه الإسرائيليين وفاجأهم بشكل صاعق، مما أدى إلى مقتل 1200 مستوطناً مدنياً وعسكرياً في يوم واحد، عدا عن تسببه بسقوط آلاف الجرحى ومئات الأسرى.
ومنذ اليوم الأول لحرب المساندة على جبهة جنوب لبنان – شمال إسرائيل، ظهر الفارق العسكري والأمني جليّاً لصالح جيش العدو، فقد سقط بأسابيع قليلة مئات الشهداء من المقاتلين التابعين للحزب، بغارات من طائرات مسيرة مسلحة بصواريخ دقيقة، طالتهم وقتلتهم في منازلهم، او أثناء تنقلهم بسياراتهم أو بدراجاتهم النارية، وحتى على الجبهات وهم محصنين في خنادقهم، ثم توسعت بعدها الحرب من الجنوب إلى البقاع، ثم إلى الضاحية الجنوبية لبيروت معقل الحزب التاريخي، مخلفة خسائر كارثية جسيمة فاقت التوقعات بالارواح والممتلكات.
بوصف الحزب رأس حربة محور الممانعة، وفي حال عدم دخوله الحرب فانه سوف يفقد دوره ومصداقيته داخليا وخارجيا
وفي معلومات خاصة تحصلت اثناء الحرب، من أحد المسؤولين غير العسكريين في “حزب الله”، وهو مقرّب من قيادي جهادي بارز بالحزب، نتحفظ أيضا عن ذكر اسمه، فقد اسرّ التالي: أنه “عندما اغتيل بطائرة مسيرة في الضاحية الجنوبية القيادي في حماس صالح العاروري في 2 شباط 2024، وكان هذا الاعتداء يشكل خرقاً حينها لقواعد الاشتباك المعمول فيها برعاية اميركية، حضر بعدها القائد الجهادي العام فؤاد شكر (الذي اغتيل لاحقا)، وعدد من القياديين العسكريين وقابلوا السيد نصرالله، وطلبوا منه بوصفه رئيس المجلس الجهادي، السماح لهم بالردّ العسكري صاروخياً على حيفا وتل أبيب، رداً على قصف الضاحية ومقتل العاروري، غير أن نصرالله وقد أدرك بذكائه وملاحظته لسير المعركة مدة ثلاثة شهور مضت، علم حجم الفجوة العسكرية والأمنية الهائلة بين حزبه وبين الجيش الإسرائيلي، جعلت من هوية مقاتلي الحزب وقادتهم مكشوفين بشكل غير مسبوق للطائرات المسيرة العدوّة، وعرضة للتصفية والاغتيال، لهذا فإنه أجاب القائد شكر ومن معه بقوله: “سوف يقتلونا كلنا!! ماذا تنتظر إذا بادرنا بقصف مدنهم الكبرى واعطيناهم الحجة؟ واضح أن نتنياهو ينتظر ذريعة تصدر منا حتى يشن حربه الشاملة ضدنا، بعد ان ظهر حجم الفارق بالاستعداد للحرب وعجزنا عن مجاراة اسرائيل عسكريا ومخابراتيا؟!”.
إقرأ أيضا: علي الأمين: الحكومة اللبنانية وافقت على تطبيق الـ 1701 لكن إسرائيل الآن في مكان آخر!
وهذا أيضا تنبؤ متشائم آخر لنصرالله يتوقع فيه اغتياله، واغتيال من كان يحدثهم من أركان قياديي حزبه العسكريين! ومن الطبيعي ان هذا التقييم العسكري الذي نقل عن لسان نصرالله في بداية حرب الاسناد وسمعناه في حينه وكتمناه مهنيا، يبقى نطاقه داخليا يعني القادة الجهاديين والامين العام فقط لا غير.
لماذا دخل الحزب الحرب؟
إذاً ما هو الخطأ الذي وقع، وتسبب باندلاع الحرب نفسها وتفاقمها، والذي أدى إلى ما أدى إليه من كوارث، طالما أن أمين عام حزب الله الراحل أعلى سلطة سياسية وعسكرية فيه كان ضد الحرب ولا يريد توسعتها، ولماذا اتخذ اذن قرار حرب الإسناد؟
الجواب بحسب مصدر معني بالحزب، أن السيد نصرالله لا يستطيع التفرّد بقرار “اعتزال المواجهة”، بعد أن أعلن “وحدة الساحات” ضد إسرائيل، خصوصا ان هذا المصطلح أطلقه نصرالله بنفسه بعد التهديدات الإسرائيلية المتكررة لإيران ولبنان، وبوصف الحزب رأس حربة محور الممانعة، وفي حال عدم دخوله الحرب فانه سوف يفقد دوره ومصداقيته داخلياً وخارجياً، وسوف يرى نفسه لاحقا خارج المحور سياسياً وعسكرياً”.
لذلك وبالتحليل المنطقي، فان نصرالله الذي حاول ان يتجنب حرباً شاملة مع اسرائيل منذ عام 2006، بات ملزماً بالانخراط في حرب غزة عقائديا وتنظيميا ، في حرب اسماها نصرالله بـ”حرب المساندة”، بدأها بحذر شديد طالت عرض 5 كلم الحدود الإسرائيلية، غير أن الإسرائيلي الذي استشعر تفوقه العسكري بوضوح، كان يبيّت امرا، فدفع بالحرب إلى مداها الأقصى بعد عام، بغية تصفية حزب الله نهائياً والقضاء على النفوذ الإيراني في لبنان والمنطقة”.
اليوم، الخسائر البشرية بسبب الحرب بات تعدادها في لبنان بالآلاف مع تدمير عشرات الاف المنازل في الجنوب والبقاع والضاحية الجنوبية، اصبحت كابوسا ابشع من حرب تموز 2006، بعد ان شملت الغارات الجوية القاتلة والمهدّمة لبنان كله ولم تسلم منها بيروت، بالمقابل استطاع “حزب الله” إصابة تل أبيب أكثر من مرة، ولو بصواريخ قليلة العدد وغير مؤثرة، رغم ان مدينة حيفا أصبحت هدفاً أسبوعياً منذ اغتيال نصرالله في 27 أيلول 2024، وكامل الصف الأول من قيادته العسكرية، إضافة لاغتيال خليفته السيد هاشم صفي الدين والشيخ نبيل قاووق وغيرهم من رجال دين الحزب البارزين، ولم يفلت منهم سوى الشيخ نعيم قاسم نائب الأمين العام الذي انتخب قبل أيام في 29 تشرين أول 2024 أميناً عاماً أصيلاً للحزب من قبل مجلس الشورى التابع للحزب، الذي لا يعرف مكان أعضائه الخمسة المتبقين حتى الساعة.
إقرأ أيضا: هل اغتالت إسرائيل آخر الناجين من قيادة «الحزب».. من هو أبو علي رضا؟
وبهذا، كما استُدرج صدام حسين إلى محرقة حرب الخليج، تمّ استدراج إيران و”حزب الله” من قبل الدول الكبرى إلى محرقة حرب غزة، التي أزالت المقاطعة الفلسطينية المنكوبة عن الخريطة، ومن المتوقع أن حرب المساندة التي حوّلها نتنياهو إلى حرب اسماها “سهام الشمال” ان تستمرّ طويلا، وذلك بعد ان وعد جمهوره اليهودي اليميني المتطرّف بتغيير خارطة المنطقة ووجهها فيها، وانه سوف يقضي على “حزب الله” في لبنان و”حماس” في غزة، محاولاً قبض ثمن ما ينجزه بحملة مكافحة الإرهاب على حد زعمه التي أطلقها خدمة للعالم، وهي واقعا من أجل إبعاد النفوذ الإيراني عن حدوده، وعرقلة مشاريع السلام الدولية التي تقودها أميركا.
وبالنهاية، يبدو ان سياسة حافة الهاوية، التي اتقنتها ايران مقابل الولايات المتحدة، واحترفها تلميذها النجيب “حزب الله” واخذت بها حركة “حماس” في العقود الماضية، فقد وقعت هذه السياسة في سقطة مميتة قاتلة، وضعت لبنان وغزة في اتون حرب ابادة، لا يعلم سوى الله نهايتها.
فهل ينجح بعدها بنيامين نتنياهو بتغيير وجه المنطقة كما اراد، ام سوف يلاقي الخيبة والهزيمة في حال فشل بحربه البرية الجارية اليوم في الجنوب اللبناني، التي يلاقي فيها جيشه الغازي مقاومة شرسة من قبل مقاتلي حزب الله؟
الأشهر المقبلة وربما اكثر اذا ما طالت الحرب، سوف تجيب على هذا السؤال المصيري والغامض.