وجيه قانصو يكتب ل«جنوبية»: نموذج معاصر لثنائية الخليفة والسلطان

وجيه قانصو
يخص الدكتور وجيه قانصو «جنوبية» بمقال أسبوعي ينشر حصرياً على صفحات الموقع ومنصاته.

بعد أن سيطر الأمراء البويهيون على بغداد، فكر أميرهم معز الدولة في قتل الخليفة العباسي بصفته رمزاً دينياً، والسلطة الشرعية التي يدين لها المسلمون بالولاء والطاعة.  فنصحه أحد مستشاريه، أن ذلك سيؤلب عامة الناس عليه ويهدد استقرار حكمه، واقترح عليه إبقاء الخليفة كحاكم صوري، وأن تكون كامل صلاحيات الحكم ومقدرات الدولة بيد الأمير البويهي.  فكان الأمر كذلك، ونشأ في التاريخ الإسلامي ما بات يعرف بثنائية الخليفة والسلطان، كشكل من أشكال السلطة، الذي يجمع بين منصب خلافة النبي في  الذود عن الدين وتطبق أحكامه، وهو منصب الخلافة، وبين منصب تقوم مشروعيته على الغلبة والقهر، ويملي إرادته على الجميع بمن فيهم الخليفة وهو السلطان.

نشأ في التاريخ الإسلامي ما بات يعرف بثنائية الخليفة والسلطان كشكل من أشكال السلطة

هذا الوضع استمر بعد زوال البويهيين في حكم السلاجقة والمماليك، ومن ثم العثمانيين، الذين حرصوا على أن يكون منصب الخلافة تحت رعايتهم، أو بالأحرى تحت وصايتهم، ليكسبوا شرعية دينية، تضمن خضوع الناس الطوعي من جهة، إضافة إلى قوة القهر والغلبة التي يحوزونها، ليضمنوا إذعان الناس وخضوعهم القهري من جهة أخرى.

هذا الوضع استمر بعد زوال البويهيين في حكم السلاجقة والمماليك ومن ثم العثمانيين الذين حرصوا على أن يكون منصب الخلافة تحت رعايتهم

ثنائية الخليفة والسلطان، أحدثت تحولاً في وضعية السلطة، ومفهومها في المجال الإسلامي. حيث انفصلت السلطة عن الشرعية السياسية، أي انفصلت عن موجبات الخضوع الطوعي والإختياري عند أفراد المجتمع، لتكون قائمة على الإكراه والإرغام، اللذين ينتزعان الخضوع بوازع الخوف والرعب، لا بوازع الطاعة الطوعية، التي كانت تقوم حينها على أساس ديني. هذه الثنائية ترسخت في الواقع السياسي، وباتت اعتيادية ومحل اعتراف عام، وترسخت في الذهنيات، بل نشأ إزائها أدبيات واجتهادات فقهية حولها، عُرف بعضها بالأحكام السلطانية، التي تسوغ هكذا ثنائيات، وتعتبره أمراً واقعاً لا يمكن تغييره أو تعديله، وعرف بعضها الآخر بالادبيات السلطانية، التي تربط حكم السلطان بالقدر الإلهي، وتقدم نصائح للسلطان، حول سبل إدامة ملكه واستقراره. 

ثنائية الخليفة والسلطان أحدثت تحولاً في وضعية السلطة ومفهومها في المجال الإسلامي

رغم زوال مؤسسة الخليفة وانتهاء الحكم السلطاني، إلا أن الثنائية التي تقوم على الجمع بين الشرعية السياسية، التي تمثلها الدولة المنبثقة من المجتمع والمعبرة عنه من جهة، وبين سلطة الغلبة والقهر من جهة أخرى، ظلت مستمرة وتمارس بنحو واسع، بخاصة في المجال العربي.  بحكم أنها التجربة السياسية الوحيدة التي عرفها المسلمون والعرب في التاريخ، حتى أصبحت راسخة في الذهنيات، وتمارس بنحو عفوي في شؤون الحكم وممارسة السلطة.

هذا تجلى بوجود سلطة موازية ورديفة لسلطة الدولة، تتحكم بمقدرات الدولة، وتكون تحت وصايتها وتملك حق القرار النهائي، وتكون سلطتها وسطوتها، نابعة من الأجهزة الأمنية القاسية، التي تضمن الولاء لرمز السلطة والخضوع التام لها.  هذا نجده في أشكال الحكم المنتشرة في المجال العربي بعد الاستقلال، من أنظمة الحزب الواحد، أو القائد الأبدي، أو الأنظمة الشمولية المستندة إلى حتميات تاريخية أو دينية.  التي عمدت جميعها إلى تأكيد الولاء من خارج مؤسسات الدولة الرسمية، التي تقوم على سيادة القانون والدستور، إما بفصل الأجهزة الأمنية والعسكرية عن مرجعية الدولة، لتكون بأمرة القيادة السياسية مباشرة، وإما بإنشاء أجهزة أمنية واستخباراتية رديفة على هامش الدولة، تضمن هيبة النظام وسطوته، بكل وسائل الترهيب والقمع المتاحة، من جهة  أخرى.

حرص لبنان عن تحييد نفسه من الاصطفافات الإقليمية كل ذلك حال دون ظهور أنظمة شمولية أو انقلابات عسكرية أو نظام الحزب الواحد في لبنان

 جملة عوامل جغرافية واجتماعية ودينية وثقافية، جعلت لبنان بمنأى عن هذا الشكل من الحكم.  فصيغته التسووية، وتعدديته الدينية والمذهبية، وقرب نموذج حياته وثقافته من النموذج الغربي، وحرص لبنان عن تحييد نفسه من الاصطفافات الإقليمية، كل ذلك حال دون ظهور أنظمة شمولية أو انقلابات عسكرية، أو نظام الحزب الواحد في لبنان.  إلا أن تناقضات النظام السياسي وبنيته الطائفية، ولدا صراعات داخلية، تسببت بتآكل بطيء لمؤسسات الدولة، وهشاشة في فاعليتها وعجز متزايد عن القيام بكامل مهامها.  ما أحدث فراغات وثغرات كبرى، عمدت أحزاب داخلية إلى ملئه. فنشأت بؤر أمنية وإدارات محلية لملء الفراغ الحاصل.  هذا شهدناه في إفرازات الحرب الأهلية، التي أحدثت تقسيماً مناطقياً وفرزا مذهبياً، إلا أنه كان وضعاً مؤقتاً ومحدوداً، جاء نتيجة عوامل داخلية، سرعان ما أخذ يتضاءل ويتفكك، بعد استعادة الدولة لعافيتها.

بيد أن وضعاً جديداً وغير مسبوق، لسنا هنا لمحاكمته أو تسويغه، وإنما لتوصيفه توصيفاً موضوعياً، أخذ يظهر ويتطور داخليا في لبنان، بعد انسحاب إسرائيل من الجنوب، وصار جلياً وواضحا بعد حرب 2006.  تجلى ذلك بنشوء كيان أمني، أخذ ينتزع من الدولة صميم مهامها السيادية، التي هي المسوغ الأساسي لنشوء الدولة، وهي مهمة صيانة الحدود والدفاع عن الوطن، ثم تطور في بنيته الإدارية ونشاطه الإقتصادي والمدني، ليتحول إلى دولة داخل دولة.  ثم ارتقى إلى مستويات أشد، بعد فائض تسلحه وعديد مقاتليه، ليتحول من كيان مستقل عن الدولة، إلى كيان يمارس وصاية مباشرة عليها. بالتالي بدأت تظهر ثنائية الحزب والدولة، تشبه ما كان يعرف في التاريخ الإسلامي بثنائية الخليفة والسلطان.  هي ثنائية لا تكتفي باستقلالية كيانها ونشاطها عن الدولة، أو انتزاع الكثير من مهام الدولة ووظائفها، إنما توظف كامل قدرات القهر والغلبة لديها، للتحكم بمؤسسات الدولة ومسارها وقراراتها.

بدأت تظهر ثنائية الحزب والدولة تشبه ما كان يعرف في التاريخ الإسلامي بثنائية الخليفة والسلطان 

هذه الوضعية بدأت مؤشراتها، في فرض رئيس الجمهورية من خارج مؤسسات الدولة الشرعية، وبناء تحالفات عابرة للحدود، وفتح جبهات قتالية متعددة، منفصلة عن قرار الدولة،  بل تفرض قراراها على الدولة  وتلزمها بنتائجها وتبعاتها.  صحيح أن هذه الوضعية لم تصل إلى ذروتها واكتمالها النهائي، لكن سياق الأحداث والمعطيات الموضوعية تشي بأنها الواقع السياسي في لبنان ذاهب في هذا الإتجاه.

هي وضعية تتغير فيها بنية الحياة السياسية وقواعد ممارسة السلطة، فلا يعود الشعب مصدر السلطات وأساس المشروعية، ولا تعود الدولة المرجعية النهائية والحصرية في إدارة الشأن العام، ولا يعود للتنافس السياسي على البرنامج أو الرؤية أو الأهلية من قيمة أو دور، ولا يعود الإكراه المشروع مقتصراً على الدولة، بل تتعدد مصادره ومنابعه، ولا نعود أمام حياة ديمقراطية حقيقة بحكم أن مصدر السلطة وصلاحياتها، لم يعد منبثقا من المجتمع، بل تفرضه معطيات القوة وأدوات القهر المتوفرة.

هي تحولات لم يعد بالإمكان تجاهلها، والتظاهر بأنها عرضية وعلى هامش المشهد السياسي، أو أنها مؤقتة وزائلة. ما يحصل هو تحول فعلي لكامل الواقع السياسي وقواعد لعبته، ومصادر الأمر وأساس الشرعية فيه. بتنا جميعاً داخل نموذج مستحدث ومعاصر، لثنائية الخليفة والسلطة.  

السابق
ائتلاف الديمقراطيين اللبنانيين استضاف سعيّد.. وتأكيد على رفض مبدأي تصدير الثورة ووحدة الساحات
التالي
القيادي العوني رفول يهاجم حزب الله: المقاومة فاسدة وعلاقتنا مع سوريا ندّية