حارث سليمان يكتب ل «جنوبية»: ١٤ آذار الإنتفاضة.. التي تنكرت لصانعيها

حارث سليمان
يخص الناشط السياسي والأكاديمي الدكتور حارث سليمان "جنوبية" بمقال أسبوعي ينشر حصرياً على صفحات الموقع و منصاته الإلكترونية.

يتحدث الكثيرون عن ١٤ آذار، ويقيمونها ويطلقون عليها اوصافا متعددة، ويحملونها قضايا راهنة وأزمات قديمة جديدة، بعض هؤلاء لم يكونوا قد شاركوا في الحراك السياسي، الذي انتج يوم ١٤ آذار، والبعض الآخر اعتبر ان اهداف هذه الحركة، كانت استجابة لشعارات حزبه، او استكمالا لتاريخ نضالاته السياسية، وفي كل ذلك شيء من الابتسار والتحريف والمبالغة، ف “حركة ١٤ اذار” شهدت تحولات عديدة، وتشكيلات متداخلة، والتي تسمت بأسماء كثيرة، واخيرا اتخذت اسمها النهائي  ب ” ١٤ آذار” في اجتماع البريستول، الذي عقد بعد الانتخابات النيابية.

حركة ١٤ اذار” شهدت تحولات عديدة وتشكيلات متداخلة

بعد بيان المطارنة الموارنة في ١٨ ايلول سنة ٢٠٠٠، تم تاسيس قرنة شهوان تحت رعاية البطريرك مار نصرالله بطرس صفير، وبإشراف مباشر من المطران يوسف بشارة راعي ابرشية المتن وانطلياس،  وكان هذا البيان حدثا يؤسس لمرحلة جديدة، افتتحها حدثان مفصليان، ذات ابعاد إقليمية، انسحاب جيش الاحتلال الاسرائيلي من الجنوب في ايار سنة ٢٠٠٠، ووفاة الرئيس حافظ الاسد في حزيران سنة ٢٠٠٠ ايضا. 

وقد تلا ذلك في الأول من آب سنة ٢٠٠١، المصالحة التاريخية التي قام بها البطريرك صفير مع زعيم المختارة وليد جنبلاط في جبل لبنان. وعلى اثر زيارة الكاردينال صفير الى المختارة ومدن وقرى الجبل، كانت حملات ٧ آب وتجريد حملات اعتقالات واسعة، طالت كوادر وطلاب وقيادات من “القوات اللبنانية” والتيار العوني، وردت المعارضة الوطنية الجديدة بمؤتمر لدعم الحريات العامة في فندق “الكارلتون” بتاريخ ١٩ آب ٢٠٠١، اشترك به قيادات وطنية عابرة للطوائف، وتحدث فيه قيادات من “المنبر الديمقراطي” و”حركة التجدد” و”اللقاء الديموقراطي” و”قرنة شهوان” و”حركة اليسار الديموقراطي”، معلنة مواجهة مشتركة في وجه ممارسات القمع، التي يرتكبها النظام الأمني اللبناني السوري المشترك، فيما كانت سلطة الوصاية تعتقل وتحاكم قيادات التيار العوني و”القوات اللبنانية”، وتفبرك لهم تهم التعامل مع إسرائيل، والتخطيط لمؤامرة على لبنان.

بعد اقل من ثلاثة اسابيع، حدثت غزوة البرجين في نيويورك واحداث ١١ ايلول، فأرخت بظلالها على أحداث العالم والمنطقة ولبنان.

المحطة المفصلية الثانية، كانت معركة الانتخابات الفرعية، لانتخاب نائب عن المقعد الاورثوذكسي في المتن، اثر شغوره نتيجة وفاة النائب المرحوم البير مخيبر، وقد جاء فوز مرشح المعارضة غبريال المر، والمدعوم من الرئيس امين الجميل والنائب نسيب لحود، ليضع على سكة المواجهة طيفا واسعا من القوى، التي تتجمع لمواجهة الوصاية السورية ومرتكزاتها في عهد اميل لحود، وخاصة ميشال المر، الذي لجأ للمجلس الدستوري لانتاج بدعة دستورية، تقضي بإعلان فوز المحامي صلاح مخيبر، رغم نيله اقل من ١٠% من أصوات المقترعين. 

المحطة المفصلية الثالثة كانت  في صيف سنة ٢٠٠٤، والتي تحركت بعد قيام اميركا بالحرب على الارهاب في افغانستان والعراق، وسقوط نظام الرئيس صدام حسين في بغداد في ٧ نيسان سنة ٢٠٠٣، ووصول القوات الاميركية الى الحدود السورية…

تحركت المعارضة التي نمت وامتدت وتشكلت، متخطية انقسامات الحرب الاهلية ونزاعات الطوائف والمصالح الفئوية للأحزاب والزعماء

تحركت المعارضة التي نمت وامتدت وتشكلت، متخطية انقسامات الحرب الاهلية، ونزاعات الطوائف والمصالح الفئوية للأحزاب والزعماء، لرفض عملية تمديد ولاية الرئيس لحود لثلاثة سنوات اخرى، تضاف الى ست سنوات مضت من حكمه، وانتظمت هذه المعارضة، لتتشكل بسلسلة من التشكيلات المتصلة والمنفصلة والمتداخلة في نفس الوقت، وهو ما جعلها فضاء وطنيا، يتضمن احرارا مستقلين ونخباً سياسية واعلامية، ورأيا عاما شاملا يطال كل جغرافية لبنان وفئاته، ونوازعه الطائفية والسياسية.

في تلك المرحلة  تحديدا كان سمير جعجع في السجن، وعناصر “القوات” وكوادرها محاصرون وملاحقون، اما الجنرال ميشال عون، فكان في فرنسا، فيما يقبع اللواء نديم لطيف مسؤول التيار العوني في الاعتقال، أما “حزب الكتائب” وجهازه الحزبي، فقد كان بايدي كريم بقرادوني المتحالف عضويا مع نظام الأسد، فيما المعارضة الكتائبية يديرها الدكتور ايلي كرامي، واما  النائب بيار الجميل  والرئيس امين الجميل فقد كانا تقريبا خارج الحزب، ويساهمان من موقعها في لقاء قرنة شهوان،  اما الرئيس رفيق الحريري فقد كان يعارض التمديد للرئيس لحود، لكنه كان يحاذر مواجهة قرار بشار الأسد، ويخشى من سطوة اجهزته الامنية لبنانيا وسوريا…

توالت اجتماعات المعارضة في اوتيل “البريستول”، وعقدت لقاءات عديدة كانت تصدر بيانات سياسية، تعارض فيها النظام الامني اللبناني السوري، وتطالب بداية باعادة انتشار القوات السورية نحو البقاع، ثم تطور الأمر لاحقا بعد استشهاد الحريري، الى مطلب الانسحاب الكامل لهذه القوات في البريستول رقم ٢، وهو لقاء توسع الحضور فيه ليشمل النائب احمد فتفت وباسل فليحان، وهو ما عنى ان الرئيس الحريري، قد عبر جسر الخشية من النظام السوري، ليصبح سندا للمعارضة الوطنية. 

اجبر النظام السوري عبر الضغط والإكراه على رفيق الحريري على صياغة الحكومة لاقتراح مشروع تعديل دستوري، يقر تمديد ولاية الرئيس لحود

ازف موعد الثالث من ايلول، واجبر النظام السوري عبر الضغط والإكراه على رفيق الحريري، على صياغة الحكومة لاقتراح مشروع تعديل دستوري، يقر تمديد ولاية الرئيس لحود لمرة واحدة، ثلاثة سنوات إضافية، وأظهر التصويت على التعديل الدستوري في مجلس النواب، وجود معارضة نيابية صلبة، وصل عديد نوابها الى ٢٩ نائبا، صنفتهم جريدة النهار في حينها ب “لائحة الشرف”، ولم يكن من بين هؤلاء اي نائب قواتي او عوني او منتم لكتلة الحريري، وكانت هذه اللائحة يمكن ان يرتفع عددها لتصل الى ٣٩ نائبا، في حال انضمام كتلة الحريري اليها، وفي الوقت نفسه، صدر عن مجلس الأمن الدولي بشكل فوري القرار الدولي 1559، والذي نص في حينه على رفض تمديد ولاية الرئيس، وعلى انسحاب كل القوات الاجنبية من لبنان بما فيها السورية، وعلى نزع سلاح كل الميليشيات اللبنانية والفلسطينية.

حدثت محاولة اغتيال مروان حمادة، بعد اسابيع قليلة من صدور القرار الدولي ١٥٥٩، واتجهت الحياة السياسية نحو مواجهة مفتوحة، تحضيرا للانتخابات النيابية، التي كانت ستجري صيف سنة ٢٠٠٥، وتركزت المعركة السياسية حول إقرار قانون انتخابات نيابية جديد.

قضى الرئيس الحريري شهيدا، وهو عائد من جلسة نيابية تناقش قانون الانتخاب ظهر الاثنين في ١٤ شباط  ٢٠٠٥، وتوالى خلال اقل من ساعة، قدوم أقطاب المعارضة بشكل متسارع الى قصر الحريري في قريطم، كان الجو يحمل غضبا وإصرارا على المواجهة، طبعا كان حاضرا وليد جنبلاط وكارلوس اده ونسيب لحود ومن حركة التجدد، انطوان حداد وحارث سليمان و نايلة معوض وامين الجميل وبطرس حرب وفارس سعيد وسمير فرنجية، و اطراف قرنة شهوان ومن بينهم جبران تويني، إضافة الى احمد فتفت وحبيب صادق والمنبر الديموقراطي، مع حكمت العيد والياس عطالله. جماعة المستقبل فقد كانوا يندبون وينوحون بالعزاء لا اكثر.

كان الصالون الكبير يضم معظم الحاضرين، فيما انتحى في غرفة جانبية سمير فرنجية وانطوان حداد وحكمت العيد والياس عطالله، لصياغة بيان يتهم النظام الامني السوري اللبناني بالمسؤولية عن الجريمة، فيما اقترح حكمت العيد اطلاق شعار “انتفاضة الاستقلال” على تحرك المعارضة، ومعركة المواجهة التي فتحتها جريمة الاغتيال السافرة.

في ١٨ شباط عقد “لقاء البريستول” رقم ٣، وفيه جرى نقاش اتخاذ موقف مقاطعة الجلسة النيابية الموعودة الاثنين في ٢١ شباط، لمتابعة نقاش قانون الانتخابات النيابية، وتحت ستار رهبة الجريمة وفظاعتها، كان ثمة اتفاق غير معلن بمقاطعة الجلسة النيابية، لأسباب علانية تتعلق باستنكار الجريمة، اما الأسباب الفعلية فهي الإبقاء على قانون الانتخابات الماضي لسنة ال ٢٠٠٠، والذي كان يحقق مصالح بعض الحلفاء الذي خيطوا الاتفاق الرباعي. 

واجه نسيب لحود وحركة التجدد الموقف طيلة ساعتين من النقاش، واستطاعوا تبديل موقف الحلفاء من مقاطعة الجلسة  الى الاعتصام على درج مجلس النواب، وربط تحركهم بالمطالبة بجلسة مساءلة لحكومة عمر كرامي حول جريمة الاغتيال، وتم تحديد موعد هذه الجلسة، بالاتفاق مع الرئيس بري، بعد تنفيذ الاعتصام نهار الاثنين الذي يتبع في ٢٨ شباط  ٢٠٠٥، وهي الجلسة التي انتهت باستقالة عمر كرامي، ولكي يخرج جورج بوش الابن، ويعيد تسمية انتفاضة الاستقلال ب “ثورة الارز”

وتحول الموقف الدولي ليطالب جيش الأسد بالانسحاب الكامل، بعد ان كان لأيام قليلة مضت، يستخف بمطالب المعارضة وبقدرتها على المواجهة.

لم تنجح أجهزة الوصاية السورية اللبنانية، في محاولة كسر الدينامية السياسية التي حركتها المعارضة عبر شهور عديدة، والتي جعلت من ساحة الشهداء، ميدانا لتفاعل الشباب اللبناني المقبل، من مختلف مناطق لبنان ومن اتجاهات سياسية مختلفة ومتباينة، والتي لعبت فيها المنظمات الطلابية في الأحزاب اللبنانية دورا مركزيا في صناعة الحدث، كما تولت حركة اليسار الديموقراطي، بقيادة الياس عطالله وسمير قصير وحكمت عيد وزياد ماجد، دورا تنظيميا ولوجستيا كبيرا، لذلك لم تكن مظاهرة ال ٨ من آذار، إلا محاولة أخرى قصد منها  “حزب الله” وقوى الثامن من آذار منها، إظهار الحجم الكبير لتأييد سورية الاسد، وان المطالبين بانسحابها ليسوا سوى اقلية، يمكن عزلهم واسكاتهم، لذلك حشدت قوى الثامن من آذار كل قواها، وتجمع في ساحة رياض الصلح ما لا يقل عن نصف مليون متظاهر، كان شعار هذه المظاهرة “شكرا سوريا”، التي كانت تتهيأ لانسحاب جيشها، لكن الخطاب السياسي كان اعمق من الشكر، او من مهرجان وداع، فقد اعلن السيد حسن نصرالله متوجها للمعارضة بالقول؛ “اذا كنتم تعتقدون انه بالخيم والرايات والمشالح ستغيرون ميزان القوى في لبنان فانتم مشتبهون” اي مخطئون. كان ذلك بداية المواجهة المعلنة التي انخرط فيها “حزب الله” في وجه بقية اللبنانيين خدمة لدوره الإقليمي، ومازال على حاله.

ولذلك كان يوم ١٤ آذار ردا على التحدي، الذي طرحه السيد نصرالله، والذي أتى كطوفان بشري ملأ ساحات الشهداء ورياض الصلح والطرقات، الى وسط المدينة ومداخلها، وأسس لاحقا لانتصار ١٤ آذار في الانتخابات النيابية اللاحقة طبقا لقانون ال ٢٠٠٠ واستنادا لتحالف رباعي سلمت فيه احزاب ١٤ آذار، اللبنانيين الشيعة في لبنان، للثنائي الحزبي “امل” و”حزب الله”، وفرطت بنيابة نسيب لحود في المتن وفارس سعيد في جبيل، فيما استكمل استبعاد بقية القوى والشخصيات المدنية والمستقلة الأخرى تباعا لاحقا.

بعد فوزها بالاكثرية النيابية في انتخابات ٢٠٠٥ تم اعتماد تسمية  “حركة ١٤ آذار”  على القوى والشخصيات التي دأبت على الالتقاء في “اوتيل البريستول

 بعد فوزها بالاكثرية النيابية في انتخابات ٢٠٠٥، تم اعتماد تسمية  “حركة ١٤ آذار”  على القوى والشخصيات، التي دأبت على الالتقاء في “اوتيل البريستول”، بناء على اقتراح مني، ويومها اتذكر انني طلبت من باسم السبع الترشح ضد نبيه بري لرئاسة المجلس، ورفض بشدة ذلك. المفارقة ان الكثيرين ممن يتحدثون عن ١٤ اذار اليوم، لم يكونوا فيها.

السابق
تصديق نتنياهو على خطة رفح.. خطوة جدية أم مناورة للضغط؟
التالي
بعدسة جنوبية.. في الذكرى 47 لاستشهاد كمال جنبلاط مسيرة رمزية في المختارة