مقدمة كتاب كاظم المقدادي..الكتابة على جذع نخلة بمعمار حداثوي!

عبد الحسين شعبان

حين تداعب يراع كاظم المقدادي حروفه ويختار كلماته ويرصفها بعضها إلى بعض، ليحيكها جُملًا، فإنه يفعل ذلك بمعاناة ومكابدة، لتخرج عصارة فكره بلغة جميلة سلسة باذخة، والفكرة لا تكتمل إلّا باللغة، وهو ما يقدمه لنا مثل فاكهة الشتاء، طازجة وشهية، وكأنه يردّد في سرّه، وهو في ذروة أحلامه الباريسية، ما كان يقوله الموسيقار البولوني – الفرنسي شوبان “القلب في باريس والعقل في وارشو”، وهكذا ظلّ عقل المقدادي مشدودًا إلى بغداد، مع أن قلبه ينبض في باريس بطريقة أقرب إلى سمفونية شوبان “المقطوعة الحالمة”.

القلب والعقل

وقلب المقدادي يتفاعل مع عقله، تارة بالاتفاق وأخرى بالاختلاف، وهكذا فهما بخصام أليف يتزاعلان  ويتصالحان، ثم يعودان إلى الاشتباك الودّي، وأحيانًا يتغلّب أحدهما على الآخر طوعًا أو إكراهًا، أما هو فقد ظلّ على مسافة واحدة منهما، يراقب ويرصد ويتدخل أحيانًا، تلك هي محنة الإنسان والمثقّف والكاتب والإعلامي بشكل خاص، فثمة علاقة حسيّة دائمةً بين قلبه وعقله، وبين لسانه وأذنه، علمًا بأن الطريق بينهما قصير، يُفرش ويزدان باللغة، والكلام يمر عبر اللسان، بل “أن مقتل المرء بين فكّيه”، كما قالت العرب، وكلّ شيء بما فيه ما يجسّده القلم تعبيرًا عما يريد قوله.

 واللسان والقلم مثل شفرة المقصلة أو “الحاسة القاتلة”، أو حدّ السيف، وكم من الأدباء والمثقفين، في تاريخنا العربي، قتلتهم كلماتهم، مثل بشار بن برد والحلاج والمتنبي، وفي تاريخنا المعاصر، يوسف سلمان يوسف (فهد) ومحمد باقر الصدر وفرج فودة ومنصور الكيخيا وجار الله عمر وحسين مروّة ومهدي عامل ومحمد محمود طه وآخرين، وتلك هي ضريبة الكلمة والرأي الحر، وحسب فيورباخ، الأذن هي أول من يتلقّى الكلام، والكلام يذهب عن طريق السمع إلى الدماغ، وهذا الأخير يرسله قبل إعطاء تقييم له إلى القلب، والقلب يحكم بالإيجاب أو السلب على ما يتلقاه.

وفي حياة البشر ثمة حوار بشأن علاقة العقل بالقلب، ويبقى التفكير الإنساني يتراوح بينهما، وإذا تصالح العقل مع القلب، فذلك يجسّد غاية سعادة الإنسان، حين يلتقي قلبه مع عقله، ويتوافقان في هارموني جميل. وقد تكون العلاقة غامضة فيها الكثير من الجذب والدفع والأخذ والرد، بين المشاعر والعواطف وبين العقل والرؤية.

ظلّ المقدادي مفتونًا بباريس ومن غيرها تلك الصبية المغناج تروي القلب وتشغل العقل

ظلّ المقدادي مفتونًا بباريس، ومن غيرها تلك الصبية المغناج، تروي القلب وتشغل العقل، وهو ما سحر شوبان الذي عمل على تفصيل الجمل الموسيقية البسيطة بهمس بارع وشفيف، وهو ما حاول المقدادي بمقالته الصحفية التي ربطت بين المقامات القديمة لبديع الزمان الهمذاني ومقامات الحريري (البصري) وسعدي الشيرازي والمقالات الحديثة، وقد عزف على هذا الوتر في المقالات الثلاثين التي يحتويها هذا الكتاب، محاولًا إيجاد أسلوب جديد له، ابتداءً من العنوان ومرورًا بالمتن وانتهاء بالخاتمة أو “القفل”.

المعرفة قوّة

 لم يكن المقدادي مجدّدًا في الأسلوب فقط، بل حاول أن يستوحي ذلك من التراث الذي استخدمه في إطار معمار حداثوي وبهندسة للغة، تتجاوز ما هو قائم إلى أفق مستقبلي حضاري.

الأساس في كتابة مقالاته، التي يحتويها هذا الكتاب هو المعلومة، وهو ما يحاول ضخّه ببراعة واستفزاز أحيانًا للعقل، وفي أحيان أخرى بالتغلغل الناعم، حيث يصل بالتراكم والتطوّر البطيء الطويل الأمد إلى المعرفة. وحين تُختزن المعارف، يستمد الإنسان منها الحكمة، حسب برتراند راسل، وبالطبع فالمعرفة قوّة أو “سلطة”، إنها سلطة الكلمة القائمة على فكرة، ووفقًا لفرانسيس بيكون الفيلسوف البريطاني “المعرفة قوّة”، وهذه القوّة لا تقلّ اليوم تأثيرًا عن القوى الأخرى، العسكرية والاقتصادية والديبلوماسية والثقافة والبيئية والنفسية، إن لم تزد عليها، وهي جزء لا يتجزأ من القوّة الناعمة وتكنولوجيا الإعلام والمعلومات والمواصلات والاتصالات في ظلّ  الطور الرابع من الثورة الصناعية.

بناء الجسور

 أصبح الإعلام، وبالطبع وسائل الاتصال اليوم، تسيطر على العقول والقلوب أحيانًا، على الصعُد السياسية والثقافية والاجتماعية والعلمية والتكنولوجية والصحية والبيئية والتربوية والتعليمية والنفسية وغيرها ، بل أنها أخذت تحسم نتائج الحروب أحيانًا، حتى قبل اندلاعها بحكم التكنولوجيا والطفرة الرقمية “الديجتل” وغيرها من وسائل التغلغل الناعم والتوغّل الهادئ للتأثير على العدو أو الخصم، عبر ما يسمّى نظرية “بناء الجسور”، تلك التي استخدمت خلال الحرب الباردة (1946 – 1989)، وفي ظلّ الصراع الآيديولوجي، والتي قال عنها الرئيس الأمريكي جونسون “إنها جسور ستعبرها السلع والبضائع والسوّاح” للتأثير على الكتلة الاشتراكية من داخلها، وخلخلة بنيانها وتجويفه، بحيث يكون جاهزًا للسقوط.

 وقد سبقنا جان بول سارتر، بأكثر من عقدين من الزمن، حين وصف البلدان الاشتراكية السابقة: بأنها تبدو قويّة من الخارج، لا يمكن اقتحام حصونها العالية والمنيعة، لكنها خاوية من الداخل، والأمر يعود إلى شحّ الحريّات والبيرقراطية الحزبوية المتسلطة، والأزمات الاقتصادية المستمرة.

وساهم “ترست الأدمغة” أو “مجمّع العقول” في تأسيس نظرية “بناء الجسور” ، الذي عمل ابتداءً بمعية الرئيس كينيدي واستمرّ بالقرب من الرؤساء الذين وصلوا إلى البيت الأبيض لخدمة المجمّع الصناعي – الحربي، وضمّ نخبة من الخبراء الذين احتلوا مناصب عليا في الإدارات الأمريكية المتعاقبة، ومنهم كيسنجر وبريجينسكي ومادلين أولبرايت وستيفن هادلي وكونداليزا رايس وغيرهم.

نحّات الكلمات

المقدادي لا يكتب بقلمه، ولا ينحت كلماته فقط، بل يعجنها بلغة تعبّر عن الروح ويدوفها  بالإحساس والخيال والجمال، لأنه يدرك أن الصحافي هو “مؤرّخ اللحظة” حسب “ألبير كامو”، ولم تعد الصحافة هي “السلطة الرابعة” و”صاحبة الجلالة” فحسب، إنها في مصاف السلطة الأولى، وأنه دعا إلى تأسيس سلطة خامسة.

إقرأ ايضاً: طقس متقلّب..والأمطار تعود الثلاثاء!

تستطيع كمتابع ومعني بدراسة وتحليل النصوص، أن تلحظ ثمة نكهة خاصة للمفردة المقدادية، ففيها هارموني وموسيقية وانسيابية وابتكار، فهو من الصحافيين الذين حاولوا كسر الجمود والصنمية والخروج عن اللغة التي ظلّت تحكم صحافة الأحزاب والسلطات، سواء بالمنهج أو بالأسلوب، ناهيك عن المفردة، وعلى الرغم من سيادة الآيديولوجيا في صحافة الثمانينيات وما قبلها، إلّا أنه كان إلى جانب صحافة الخبر والمعلومة والمعرفة والحكمة، تلك التي تعزّزت لاحقًا بكتابه “جدل الاتصال”، في محاولة لاستقراء الزمن الحقيقي، والمقصود بذلك الزمن الذي أخذ يسير فيه الإعلام والاتصال والتواصل والمواصلات، بسرعة أقرب إلى سرعة الضوء.

المقدادي لا يكتب بقلمه ولا ينحت كلماته فقط بل يعجنها بلغة تعبّر عن الروح ويدوفها  بالإحساس

وإذا كان الاتصال قديمًا قدم الإنسان، فإن نظريات الاتصال الحديثة تعتبر أن كلّ إنسان يمارس نشاطًا اتصاليًا، سواء في المنزل أو الشارع أو العمل أو الجامعة، وبالتالي فإن الاتصال كعملية تتضمّن المشاركة والتفاهم حول فكرة أو اتجاه أو سلوك أو فعل أو إحساس ما.

 وهناك أنواع من الاتصال بعضها اتصال لفظي وبعضها غير لفظي (الإشارة، الحركة، الأشياء)، مثلما هناك اتصال شخصي (هاتفي، بريدي، إنترنت، وغيره)، واتصال جماهري تقوم به وسائل الإعلام مثل (الصحف، الإذاعة، التلفزيون، السينما، الإنترنت، الموبايل… إلخ).

وبهذا المعنى، فإن كتابه الموسوم “جدل الاتصال”، هو كتاب معرفي تأسيسي في العديد من الآراء الجريئة و الجديدة، مثل كتابه المهم “تصدّع السلطة الرابعة”، في محاولة إعادة قراءة لدور الاتصال كشكل من أشكال الإعلام الجديد وغير المسبوق في ظلّ منجزات الثورة العلمية – التقنية واقتصادات المعرفة والذكاء الاصطناعي.

استخدم المقدادي الإعلام المكتوب والمقروء والإعلام المرئي وأحيانًا الإعلام المسموع في مسعاه لإثارة الجدل، الذي لا يكفّ عنه، حتى وإن كاد أن يكلّفه حياته، فقد ظلّ يسير على الحافة، لأنه صاحب رأي ومجتهد ومجدّد، لذلك تراه مستهدفًا من ذات اليمين وذات الشمال أحيانًا وفي الوقت ذاته، لاسيّما من أصحاب الأيديولجيات الشمولية الواحدية الإطلاقية التبشيرية، والذين لا يقبلون بالرأي الآخر، وأحيانًا يؤثمونه ويحرّمونه ويجرمونه، خصوصًا إذا كان تساؤليًا تشكيكيًا بالمعنى الديكارتي، نقديًا رؤيويًا.

 وهكذا، فإن حجب حق التعبير وممارسة شكل من أشكال الإرهاب الفكري، هو عملية لا تخصّ الإعلامي وصاحب الرأي فحسب، بل المواطن والمتلقّي، الذي يريد الحقيقة، تلك التي يخشاها كثيرون، وأحيانًا السلطات والمعارضات.

سلطات أربع

في بلدنا يواجه الإعلامي بشكل خاص والمثقف بشكل عام أربع سلطات “عليا”، تحول دون ممارسة حقه في التعبير بحريّة، وقد يتعرّض للخطر حين يقترب منها:

أولها – السلطات الحاكمة، فهو إن انتقد أصحاب القرار أو بعض مواقفهم، اعتبر خصمًا وأحيانًا عدوًا، وتتراوح قائمة اتهاماته في كونه حاقدًا أو مشبوهًا أو مدفوعًا من جهة خارجية أو غير ذلك. والمعركة غير متكافئة بالطبع، فهو يمتلك قلمه وصوته ولغته وفكره، ويكاد يكون أعزلًا أمام ما يمتلكه أصحاب القرار، خصوصًا إذا حافظ على استقلاليته ومهنيته، ولم ينخرط أو يحتمي بإحدى الجهات المتصارعة المؤتلفة والمختلفة، فما بالك حين تكون قوى سريّة ومنظمات مسلحة خارج القانون، تقف خلف أصحاب القرار، وهذه تكون أحيانًا جاهزة للقيام بما يتطلّب منها دون أي تفكير، خصوصًا حين يكون السلاح بيدها دون رادع من قانون أو دين أو أخلاق.

وثانيها – السلطات الثيوقراطية، التي تحاول التشبّث باسم الدين لمنع أي رأي حر، وأحيانًا باسم الطائفة والطوائفية، تمنع الإعلامي أو تحجب رأيه أو تلاحقه بالقانون أو خارجه، لكي لا يقترب من ” المحظور”، الذي لا ينبغي الكلام فيه، وسيكون التكفير والتفسيق  والردّة وغيرها من التهم الجاهزة بانتظاره، لاسيّما من جانب المتنفذين، ولدينا أمثلة عديدة على هذا الصعيد، لعلّ أخطرها وأشدّها قسوة هو ما عملته داعش من إجرام وتدمير وقتل على الهويّة، سواء ضدّ المسيحيين أو الإزيديين أو حتى من المسلمين الذي لا يتفقون مع تفسيراتها للنصوص الدينية ولجوئها إلى القتل وسيلة لإجبار الآخر التخلّي عن معتقداته .

وثالثها – السلطات العشائرية، التي لها قوانينها وأعرافها، وبعضها لا ينسجم مع متطلبات الدولة العصرية، ولعلّ نقدها أو اتخاذ مواقف مخالفة لها، لاسيّما فيما يتعلّق بالدگة العشائرية أو الديّة أو الثأر أو الاحترابات غير المبرّرة، كلّ ذلك قد يعرّض الإعلامي إلى الاستهداف المباشر أو غير المباشر بتواطؤ أكثر من سلطة، بما فيها سلطة الدولة أحيانًا أو السلطة الثيوقراطية لاعتبارات مصلحية، وتزداد الصورة قتامةً حين تكون العشيرة التي ينتمي إليها طرفًا في النزاع، سواء كانت هي صاحبة الحق في النزاع مع عشيرة أخرى أو أن الأخيرة هي صاحبة الحق، خصوصًا إذا حاول الإعلامي والمثقّف الدعوة إلى اللجوء إلى القضاء، بدلًا من اللجوء إلى الأعراف العشائرية لحلّ المسألة.

 ولعلّ دعوة مثل تلك تعني عدم الاعتراف بمرجعية العشيرة، التي ينبغي أن تخضع لمرجعية الدولة، ولا بدّ لجميع المرجعيات أن تخضع للدولة، التي هي المرجعية العليا وفوق جميع المرجعيات العشائرية أو الدينية أو المذهبية أو الحزبية أو السياسية أو الجهوية أو المناطقية أو غيرها، فلا يعتد اليوم بالمثل القديم “أنا وأخي على ابن عمي، وأنا وابن عمي على الغريب”، فما بالك حين يقول “أنا وابن عمي والغريب مع القانون والحق والعدل”. وتلك وظيفة الإعلامي الحر التنويرية والتغييرية، حين يدعو لتطبيق القانون على الجميع، وحسب مونتسكيو، “فالقانون مثل الموت لا ينبغي أن يستثني أحدا”.

إن قوة العادات والتقاليد وبعضها عتيقة وبالية، تبقى إحدى التحديات التي تواجه الإعلامي الحر، علمًا بأنه لا يربطها رابط مع متطلّبات المجتمعات المتمدّنة، بل تشكّل عائقًا أمام حريّة التعبير، وكثيرًا ما ينصرف الذهن في ظلّ التخلّف السائد وغياب سلطة القانون إلى مساواة حريّة التعبير بحرية التشهير، وفي الوقت الذي يحمي القانون الحريّة الأولى، فإن التشهير والقذف يعتبر عملًا مخالفًا للقانون ويسائل عليه من يقوم بالارتكاب.

ورابعها – السلطات الآيديولوجية للأحزاب، فبمجرّد تعرضها للنقد، تساهم هي بما تملكه من أدوات إعلامية في التشهير بصاحب الرأي، بوسائل خسيسة أحيانًا، ولا ترتقي إلى الذوق العام أو الحد الأدنى من اللياقة، خصوصًا عبر وسائل التواصل الاجتماعي، وبدلًا من مناقشة الرأي والفكرة وفتح حوار حول المشكلات، فإنه يتم شخصنة النقد، حتى وإن كان الناقد إيجابيًا، وهكذا تتحرّك الشبكات العنكبوتية التابعة لهذه الأحزاب، لإفراغ ما في قاموسها من أحقاد وكراهية، لكي لا يتجرّأ هو أو غيره مرّةً أخرى على تناول قضاياها الخاصة، بما فيها الفساد والرشا وسوء الإدارة والفشل في إدارة الدولة، مثلما الفشل في إدارة منتسبيها عبر إجراءات وقرارات تعسفية، غالبًا ما تؤدي إلى انشطارات وانقسامات واتهامات متبادلة بين الكتل المتصارعة، وكلّ ذلك تريد إبقاؤه سرًا ودون تسليط الضوء عليه، علمًا بأن ذلك مهمة الصحافة الاستقصائية.

حقل الألغام

في بلادنا يبقى الإعلامي يسير  في حقول ألغام، لا يدري متى سينفجر به هذا اللغم أو ذاك؟، بسبب عدم قبول المعنيين القابضين على السلطات المذكورة، التعددية والتنوع والرأي الآخر، فضلًا عن غياب التسامح والحوار كوسيلة فعالة لفهم الآخر وللبحث عن الحقيقة، وقد حاول المقدادي القفز بين الألغام، سواء في ظلّ النظام السابق أو ما بعد الاحتلال، أو حتى في بعض البلدان العربية.

 وإذا كان في السابق هناك تابو وحيد أو أوحد، هو عدم التعرّض للسياسة العامة والحزبية وتفريعاتها بالنقد المباشر أو غير المباشر في ظلّ سلطة ديكتاتورية غاشمة، فإن التابوهات أصبحت كثيرة بعد الاحتلال، شملت ما يسمّى ﺑ الرموز السياسية والدينية والعشائرية وغيرها، وشملت في أحيان عديدة حيثيات الفساد وتجارة المخدرات وانتشار السلاح خارج الدولة ودور الميليشيات بغض النظر عن مسمياتها ووظيفتها، والتمايزات والتمييزات الطائفية، وانقسام الأوقاف إلى دوائر ليست بعيدة عن غول الفساد المستشري، حسبما يقول القضاء. 

هكذا صارت جميع هذه القضايا من المحرمات، ناهيك عن التزوير المتعدد الوجوه، بما فيها للشهادات العلمية وضحالة المناهج والمستويات الدراسية في التعليم العالي بشكل خاص، فضلًا عن المدارس الدينية والجامعات التي هي واجهة لقوى ومؤسسات سياسية، لا ترتقي إلى متطلبات الدراسة الجامعية، فما بالك بالعليا.

إذا كان المقدادي وغيره من الصحافيين المتميزين يتجنبون مناقشة هذه القضايا، مثلما تريد منهم السلطات المختلفة، فماذا سيناقشون إذًا؟ وكيف سيقومون بدورهم التنويري؟ في ظلّ مجتمع يعاني من أميّة تزيد على 20%، فضلًا عن الأميّة التكنولوجية، وكذلك الأمية السياسية، في ظلّ انتشار الخرافات والشعوذات والسحر، والإيمانيات الزائفة والتخديرية، التي تبعد الإنسان عن التفكير بالأسباب الحقيقية لبؤسه واستلابه وقهره واستغلاله، علمًا بأن أكثر من 30% من السكان على حافة الفقر، حسب الإحصاءات الرسمية.

وتلك أسئلة موجهة إلى القوى المجتمعية الحكومية وغير الحكومية، وتحتاج إلى حوار مجتمعي، لاسيّما وأن الاتصال أصبح يشمل كلّ الحقول، ويلامس كلّ العقول، من الموبايل (الهاتف المحمول)، ولاسيّما الهواتف الذكية، إلى الإنترنت ومواقع التواصل الاجتماعي، فضلُا عن التلفزيون والمحطات الإعلامية الخاصة، إذْ أصبح بإمكان أي إنسان أن يدخل ويساهم ويدلو بدلوه على هذا الصعيد، بما هو إيجابي، وأحيانًا بما هو سلبي، وقد يؤدي إلى التفرقة وإثارة النعرات العنصرية والطائفية والمذهبية، بما يسهم في تأجيج مشاعر الكراهية والحقد والانتقام والثأر وردود الفعل.

الشجاعة والجرأة

هذه التحديات واجهها المقدادي بشجاعة وجرأة في قول الرأي، سواء في حقله الأكاديمي – التدريسي في الجامعات ومراكز الأبحاث أو في محاضراته أو في كتاباته الصحافية في العديد من الصحف العراقية، إضافة إلى إطلالاته التلفزيونية المهمة كمحلل وصاحب رأي ومجتهد، فضلًا عن كونه خبيرًا إعلاميًا، وحين يكتب المقدادي، فإن حروفه ملتهبة وكلماته معبّرة وجملته أنيقة وفكرته رشيقة. إن ذلك تعبير عن مكنونات روحه، لذلك تكتسب معنىً ودلالةً وامتلاءً، لأنها ناجمة عن خبرة وبحث وجهد وعناء، والهدف هو الوصول إلى الحقيقة لوضعها أمام القارئ والمواطن والإنسان، وتلك هي مهمة الإعلامي الأولى.

 ومن يلجم الإعلامي ويحاول تكميم الأفواه وتحطيم الاقلام، إنما يهدم نفسه بنفسه حسب باروخ سبينوزا، فحرية الصحافة تعني حرية النقد حسب الروائي جورج أورويل، ومهمتها طرح الأسئلة، مثلما هي مرآة لطبيعة النظام السياسي، فإذا كان نظامًا ديمقراطيًا حقيقيًا، فإنه يوفّر كلّ مستلزمات حريّة التعبير، وإن كان العكس فإنه سيضع الكثير من القضايا في قائمة المحرّمات، وبذلك تتعرّض الصحافة إلى التدجين، وتكون وجهًا آخر لمن يحكم، باستمرار سياسة التجهيل وحجب الحقائق.

من يلجم الإعلامي ويحاول تكميم الأفواه وتحطيم الاقلام إنما يهدم نفسه بنفسه حسب باروخ سبينوزا فحرية الصحافة تعني حرية النقد حسب الروائي جورج أورويل

من جهة أخرى فإن على الإعلامي إن يزن كلامه حرصًا على صدقيته، وتكون المسألة أكثر دقة بالنسبة للأكاديمي، فثقل شهادته يحمّله أعباءً أخرى، كي يكون أكثر حرصًا وشفافية وتوثيقًا، وأختم بقول منسوب إلى الإمام علي (رض) “ليت لي رقبة كرقبة البعير كي أزن الكلام”، وحين سُئل لماذا يا أبا الحسن؟ فقال: لكي أمضغ الكلمة جيدًا قبل أن تخرج من اللسان. 

وسواءً كان هذا الكلام للإمام علي أو منسوب إليه، فإنه كلام دقيق يستند إلى معرفة بالواقع، الذي لا غنى عنه، لأن أية نظرية لا يمكن التحقق من صحتها، إلّا بالممارسة والتطبيق، والغايات الشريفة والعادلة بحاجة أيضًا إلى وسائل شريفة وعادلة، “لأن شرف الغاية من شرف الوسيلة”، فالوسيلة إلى الغاية مثل “البذرة إلى الشجرة” حسب المهاتما غاندي، والإعلامي مسؤول أيضًا عن كشف الحقيقة وتعميمها، والدعوة للتسامح والسلام واللّاعنف وقيم العدالة والمساواة ونبذ العنصرية والطائفية، وتعزيز المشتركات الإنسانية في مواطنة متكافئة ومتساوية، وإلّا سيكون بالضدّ من وظيفته التنويرية التغييرية. 

السابق
«مسار فلسطين ومصير لبنان» ندوة المجلس الثقافي للبنان الجنوبي
التالي
تكهنات إسرائيلية عن «حزب الله» وصواريخه!