لبنان يُعانِدُ بـ «سلاحه الأبيض» إطباقَ السواد على أيامه!

التزلج فاريا

… «خبّي ثلجَك الأبيض ليومَك الأسود». هكذا يبدو حالُ لبنان مع «ذَهَبِه الأبيض» الذي مهما اشتدّتْ الهمومُ وتكاتفتْ الأزماتُ يبقى الكنزَ الموسميّ الذي يحمل «بلاد الأرز» على «أكتافه» لينتشلها من عتمةِ المصير والكوابيس التي لا تنفكّ تُحاصر حاضرَها ومستقبلَها، فتتحوّل الجبالُ وجباهُها الناصعةُ بقعةَ الضوء فوق رقعةٍ يَحْلو عليها قولُ «لسه الأحلام ممكنة» رغم كل العواصف السياسية والمالية، وحتى العسكرية – الأمنية التي أطلّت أخيراً من جبهة الجنوب التي خرجت من وضعية «الحرب الباردة» والتحقتْ بـ «ملعبِ نارِ» غزة تاركةً الوطن الصغير على حافة انفجار كبير قد يقع غداً وربما لن يقع أبداً.

كلّما تَكَلَّلتْ القممُ بتاجها الأبيض وارتسمتْ على أفواه الجبال فَرْحَةٌ كل السنة، كانت إشارةُ الانطلاقِ لحركةٍ سياحية واقتصاديةِ ناشطة ورياضية مثمرة، في دلالةٍ على «الدورة المتكاملة» التي يحرّكها موسمُ الثلج الذي يحمل أكثر من بُعدٍ يضع لبنان على خريطة السياحة الشتوية، وبينها الوجه الرياضي الاحترافي الذي يجعل من «بلاد الأرز» رقماً صعباً في المنطقة وفي قارة آسيا ككلّ على صعيد التزلج بكل أنواعه، لتبقى «العالميةُ» عالقةً عند ارتفاع تكلفة ممارسة هذه الرياضة رغم شغف مَن يمارسونها وامتلاك لبنان المنحدرات الملائمة التي تراعي كل الشروط العالمية.

جِبالُه المرصّعة بالثلج جِباهٌ ناصعةٌ على مرمى جبهة الجنوب المشتعلة

ما أن تطلّ الشمس برأسها بعد عاصفة ثلجية، تشهد طرق لبنان «زحفاً» نحو الجبال وتحديداً نحو محطات التزلج. وبسرعة تكتسي المنحدرات بالألوان الصارخة، تنزلق متعرّجة من الأعالي لتلتفّ بمهارةٍ عند الأسفل وتعود الى انتظار دورها أمام المصعد لتنطلق نحو القمة من جديد وتعيش متعة التزلج مرة بعد مرة حتى الإنهاك.

أطفالٌ بأعمار صغيرة تحت مراقبة الأهل، أولادٌ من كل الفئات العمرية، شبان وشابات، مخضرمون وكهول… كلهم يمارسون الهواية الأحبّ الى قلوبهم وكلٌّ بحسب مستوى لياقته البدنية وحرفيته.

في محطات التزلج اللبنانية يجد كل مُحِبّ لهذه الرياضة، مبتدئاً كان أو متمرّساً، المنحدرَ الذي يناسب قدراته. ومَن يودّ خوض هذه المغامرة على طريقة «أول مرة» فلن يجد صعوبةً في اختيار المدرّب الأنسب له.

«الراي» جالتْ على عدد من المعنيين بشؤون التزلّج للاطلاع منهم على ما تقدّمه «بلاد الأرز» لهذه الرياضة وما تواجهه من عثرات، وهل مازال الثلجُ أشبه بـ «السلاح الأبيض» الذي يُعاند لبنان من خلاله أن يُطْبِق السوادُ على كل أيام أبنائه الذين يتنقّلون من… منحدر إلى آخَر.

فريدي كيروز

فريدي كيروز، رئيس اتحاد التزلج اللبناني يشرح العقبات التي يواجهها لبنان وأبرزها أن موسم التزلج بات قصيراً نسبياً وذلك بسبب التغيير المناخي الذي تشهده الكرة الأرضية وفي أحسن الحالات بات يمتدّ على شهرين ونصف بدءاً من منتصف يناير حتى مارس وقد لا يتعدى 30 يوماً في بعض السنوات.

ويقول: «سنة 2024 تبدو أفضل من سابقتها على صعيد تَراكُم الثلوج التي هطلت في الأسبوع الثالث من يناير ونأمل بموسم واعد. لكن الحرب التي تدور رحاها في جنوب لبنان أثّرت على الموسم إذ لم نشهد حتى اليوم حجوزات أو وصول لسياح عرب او أوروبيين وبتنا نعتمد على الحركة المحلية فقط. حتى المدرّبين الأجانب الذين تَعاقَدْنا معهم لتدريب لاعبينا، لم تسمح لهم حكوماتُهم بالمجيء الى لبنان. ولكن كمية الثلوج التي تساقطت حتى الآن تكفي لتغطية الموسم والتعويض عن التأخير الحاصل في انفلاش البساط الأبيض».

رغم الصعوباتِ التي تعانيها مَراكزُ التزلّج في تأمين الكلفة التشغيلية الباهظة لاسيما تلك المتعلّقة بتأمين الكهرباء عبر مولّدات خاصة عملاقة وتوفير المحروقات لها بأسعار خيالية، إلا أنها تقوم بكل ما يَلزم لإنجاحِ موسمها وفتح المدرجات أمام الرواد.

ويؤكد رئيس اتحاد التزلج أن المنحدرات اللبنانية لاسيما التي تُقام على أرضها سباقات وبطولات محلية وعالمية هي مصنّفة دولياً وتُطابِق أعلى المعايير التي يفرضها الاتحاد الدولي، وثمة رقابة دولية عليها تتجدّد كل أربع سنوات لتأكيد مطابقتها للشروط.

لكن التساؤل الذي يفرض نفسه: لِم لا تكون رياضة التزلج في لبنان في متناول كل أهله وتبقى مخصصة فقط لفئة معينة؟

عن هذا السؤال يجيب كيروز «إن التزلج رياضة مكلفة في كل العالم لكن النشاطات الثلجية المختلفة يُمكن أن تلائم جميع الفئات، من التزحلق على الثلج، إلى ممارسة تزلج الأعماق، أو السير على الثلج بواسطة الأحذية الشبكية snowshoeing، أو حتى اللعب وقضاء أوقات ممتعة لا تحتاج الى تكلفة عالية. أما إعداد متزلجين محترفين فيتطلب كلفة عالية ويحتاج الى الكثير من التحضير والتدريب والمتابعة».

ويشرح كيروز أن «الاتحاد الدولي للتزلج يصنّف الدول وفق ثلاثة مستويات، ولبنان قد يصعب عليه منافسة الفئة«أ»من الدول المعروفة بالتزلج مثل سويسرا وفرنسا وألمانيا والسويد والصين، لكنه بالتأكيد قادر على المنافسة بشدة ضمن فئته وهي الـ«ب»وغالباً ما يحصد أحد المراكز الثلاثة الأولى. وفي شهر فبراير الجاري سيتلقى لبنان زيارة رئيس الاتحاد السويسري للتزلج لتوقيع بروتوكول تعاون مع الاتحاد اللبناني لتطوير اللعبة. وقد أصرّ على المجيء شخصياً للتعرّف إلى المنحدرات اللبنانية بعد كل ما سمعه عنها من أشياء إيجابية».

إقرأ أيضاً: يوم صاروخي كثيف لـ«حزب الله» على شمال فلسطين.. وإسرائيل تعمق بنك أهدافها وعدوانها

ويضيف: «سيستضيف لبنان في مارس بطولة تشارك فيها 6 أو 7 دول أجنبية. ورغم ضيق إمكاناتنا المادية، إلا أن لدينا بروتوكولات مع بعض الدول لتدريب لاعبينا عندهم ومشاركتهم في السباقات. وسنوياً نرسل 20 ولداً الى النمسا للتدرّب لمدة عشرة أيام حيث تتحمل الأكاديمية هناك تكلفة إقامتهم».

وفي حين تحتضن الدول أبطالَها ولاعبيها وتقدّم لهم كل الدعم، إلا أن الدولة اللبنانية تغيب بشكل كلي عن مساندتهم لاسيما مادياً ما يجعل هؤلاء يواجهون صعوبات في تَحَمُّل تكلفة هذه الرياضة التي يمكن أن ترفع اسم لبنان عالياً.

أنطوني مراد

ويقول أنطوني مراد وهو بطل في رياضة التعرّج إنه حقق بطولاتٍ محليةَ وتأهل الى بطولات عالمية، أبرزها بطولة العالم التي جرت في إيطاليا، وبطولة العالم للناشئين في بلغاريا، كما بطولة العالم للرجال في كورشوفيل فرنسا.

ويؤكد أن اللاعبين اللبنانيين قادرون على المنافسة بشكل كبير لكن عدد المحترفين قليل نسبياً وذلك لأن اللعبة متطلبة جداً جسدياً وفكرياً ومادياً.

ويفصّل قائلاً «اللعبة مكلفة، من الملابس الى الأحذية ومعدّات السكي وصيانة هذه الأخيرة بعد كل تمرين. هذا إضافة الى السفر الى الخارج من أجل التدريبات في مخيمات خاصة ومتابعة التمرينات الخاصة طوال السنة في الصالات الرياضية للحصول على اللياقة البدنية المطلوبة للتزلج. لكن كل هذا المجهود يُنسى أمام الشغف الذي يجتاح اللاعب تجاه هذه الرياضة».

صوفي كلاس

الصعوبات ذاتها تؤكد عليها صوفي كلاس، بطلة لبنان للتزلج لعدة سنوات. هي الصبية التي لم تتجاوز التاسعة عشرة من عمرها والتي بدأت اللعبة قبل أكثر من عشر سنوات وتأهلت للمنافسة في عدة بطولات عالمية، وتقول: «هي رياضة مُكْلِفة بلا شك بمعدّاتها لاسيما مع الوضع الاقتصادي السائد حالياً في لبنان، ولجهة كلفة بطاقات الدخول إلى مَراكز التزلج اليومية أو الفصلية التي باتت مرتفعة أيضاً. هذه العوامل مجتمعة تجعل رياضةَ التزلج محصورةً بمَنْ يمكنه تحمُّل تكاليفها، وهذا غير عادل بالنسبة للكثيرين الذين يملكون المؤهلات لكنهم غير قادرين على المشاركة في البطولات التي تُقام خارج لبنان رغم تأهلهم إليها. فهنا الأهل عادة هم مَنْ يتكبّدون تكلفة السفر لأن النوادي كما الاتحاد غير قادرين على تأمين المتطلبات المادية رغم قيامهم بكل ما يلزم لدعم لاعبيهم».

في لبنان أكثر من مركز تَزَلّج يستوفي شروط المسابقات العالمية وأبرزها الأرز (بشري – الشمال) المعروف بمرتفعاته، و«المزار» في كفرذبيان (كسروان) وهو أكبر مراكز التزلج وأكثرها شهرة حيث يضم أربع بيستات مختلفة. فيما بعض المراكز الأخرى مخصصة لممارسة التزلج كهواية وليس كسباقات وبطولات.

وتلعب الأندية دوراً بارزاً في تدريب اللاعبين ودعمهم وتأهيلهم للمشاركة في مباريات عالمية، ولكن يبقى دور الأهل أساسياً في تشجيع أولادهم وغرس حب هذه الرياضة في قلوبهم.

ويقول مراد إنه لو لم يترعرع في منطقة بشري الجبلية وفي جو عائلي يمارس هذه الرياضة، لَما كان ربما تَعَلَّقَ بها. أما صوفي فتعترف بأن الأولوية عند الأهل في لبنان هي التحصيل المدرسي والجامعي، وتبقى عطل نهاية الأسبوع والعطل الأطول مخصصة للتمارين، وتضيف: «لكن إذا احتسبنا كل هذه الأيام فهي لا تتخطى 40 يوماً في حين أن اللاعبين في أوروبا يتمرّنون لأشهر بسبب موسم الثلج الطويل عندهم. لكن عشق اللعبة يدفع بنا الى بذل تضحيات كبيرة للوصول الى مستويات مشرفة. فأنا مثلاً ضحيُت بالفصل الجامعي الأول لأنني دُعيتُ من الاتحاد العالمي الى مخيم تدريبي لمدة شهر. ومثلي كثيرون ممّن يضحّون كثيراً لتحسين مهاراتهم و التأهل الى الألعاب الأولمبية أو مسابقات دولية».

ولبنان الذي يُعتبر قبلة في السياحة الشتوية، وبدأ يجد مَن ينافسه بين الدول العربية، يستطيع أن يشكّل منصة تستفيد منها الفرق العربية.

ويؤكد كيروز أن لبنان لايزال من بين أرخص البلدان على صعيد التزلج. وحتى بالنسبة للإقامة في الفنادق او بيوت الضيافة والـairbnb وبالتالي هو يؤمّن للضيوف العرب منطقة مضيافة آمنة تحترم وجودهم وتقدم لهم إمكان التدرب في الطبيعة على منحدرات تخضع لمواصفات عالمية.

لا وجود للسياح العرب أو الأجانب لاسيما الفرنسيين والقبارصة الذين كانوا يشكّلون العدد الأكبر من السياح

من جهته، يتابع مراد: «نحن كلاعبين نرحّب بالخبرات العربية ونستطيع أن نؤمّن له منحدرات صعبة وقاسية تساهم في زيادة مهاراتهم ويكون تَبادُل الخبرات بيننا وبينهم لمصلحة الطرفين».

وبعيداً عن الاحتراف، يقدّم بلد الأرز لكل هواة التزلج والثلج مروحةً واسعة من النشاطات.

إيلي فرحات

وفي الإطار، يقول إيلي فرحات المدير التنفيذي لنادي الزعرور Zaarour Club «إن النشاطات كثيرة ومتعددة للصغار والكبار والمحترفين والمبتدئين. ويستطيع أي شخص أن يمضي أوقاتاً ممتعة يستمتع فيها بجلسة على التيراس أو تناول الطعام في المطاعم المتعددة».

ومن نقاط الجذْب الكثيرة في هذا المشروع أن الطريق إليه سهل وممتع وهو يوفّر في أرجائه مساحاتٍ واسعةً لاستيعاب الزوار وسياراتهم لكن تبقى النقطة الأهم أن تكلفة التزلج في لبنان بالنسبة للسواح العرب تعادل ربع ما يتكبّدونه للسفر الى أوروبا.

ورغم كل ما يُحكى عن ارتفاع الأسعار فإن تكلفة قضاء نهار بأكمله مع استئجار معدات التزلج وتناول الطعام تصل الى 60 دولاراً. ومشروع الزعرور يضم فندقاً يستفيد منه رواده بأسعار توازي أسعار غالبية الفنادق الراقية لكن المنطقة المتنية الجبلية تضم مجموعة من الفنادق الصغيرة التي تؤمن إقامة بأسعار مقبولة جداً.

ويشير فرحات إلى أنه «حتى اليوم لم نشهد بعد أي وجود للسياح العرب أو الأجانب لاسيما الفرنسيين والقبارصة الذين كانوا يشكّلون العدد الأكبر من السياح، لكن الإقبال اللبناني كبير فاللبنانيون يحبون الثلج ويهرعون لاستقباله ما إن تسمح الأجواء بذلك. أما المغتربون اللبنانيون لاسيما الذين يعملون في دول الخليج، فيشكّلون الرافعة الاقتصادية لموسم التزلج حيث يتوافدون في العطل لتمضية أيام في الزعرور. وهذا لا شك خيار ذكي لأنه يوفّر عليهم تكبّد كلفة باهظة بالسفر الى أوروبا للعطلة الشتوية».

السابق
يوم صاروخي كثيف لـ«حزب الله» على شمال فلسطين.. وإسرائيل تعمق بنك أهدافها وعدوانها
التالي
على غرار عرفات في العام 1982..إسرائيل طرحت فكرة «نفي السنوار»!