«قواعد حماه» وإشكالية الاستلهام!

حافظ الاسد سوريا

عندما روّج الصحفي الأميركي الشهير توماس فريدمان؛ لما أسماه “قواعد حماة” في الحرب على غزة؛ بدا الأمر، لكثيرين ممن يرون نصف الحقائق في أمتنا؛ وكأنه يخلط أموراً لا رابط بينها، لكن مجزرة المستشفى الأهلي وما سبقها وما سيتلوها، يؤكد أن “إسرائيل ستطبق قواعد حماة؛ وهو مصطلح صاغته منذ سنوات لوصف الإستراتيجية التي طبقها الرئيس السوري حافظ الأسد عام 1982، عندما حاول أسلاف حماس السياسيون، جماعة الإخوان المسلمين في سوريا، الإطاحة بنظام الأسد العلماني من خلال بدء تمرد في مدينة حماة السورية” كما كتب فريدمان قبل أيام، في “نيويورك تايمز”.

في السياق؛ شخصيات صهيونية لم تخف رغبتها على الملأ بـتبني “قواعد حماة” في غزة بعد هجوم حماس المبهر؛ لكأنها تقول: “لا داعي للغضب أيها العرب؛ نحن نستلهم قواعد حربنا منكم”.

شخصيات صهيونية لم تخف رغبتها على الملأ بـتبني “قواعد حماه” في غزة بعد هجوم حماس المبهر لكأنها تقول: “لا داعي للغضب أيها العرب نحن نستلهم قواعد حربنا منكم

ما صاغه حافظ أسد بالحديد والنار؛ نظرية تقول: “ازرع الرعب في أعدائك. اجعلهم يوقنون أن ردك سيكون بلا قواعد أو حدود حتى لا يفكروا بالتمرد عليك أبدا”.. وبالتأكيد؛ سيزداد الواقع رعباً عندما ترى الضحية أن الجلاد محصن من أي عقاب، وهو ما حدث بالفعل.

وفقاً لهذه النظرية حكم آل الأسد سوريا جمهوريةً للخوف؛ لا يقوى فيها أحد على التمرد أو مجرد انتقاد “القائد الملهم”، إلى أن مات مؤسس النظرية مورثا سوريا لابنه بشار، وما إن تجرأ السوريون على المطالبة بالحرية بعد نحو ثلاثين سنة، انسياقا مع موجة الربيع العربي عام 2011، حتى أعاد الابن سلوك الأب، على نحو أوسع وأفظع، وما تزال سوريا تعاني إلى يومنا هذا من إجرام يفوق بأضعاف إجرام الصهاينة، رغم كل الهمجية التي تمارسها “إسرائيل” في فلسطين والعالم.

لا شك أن “إسرائيل” هي التي أحرقت الأطفال والنساء في المستشفى التي صبت عليها حممها، لكنها تدعي أن المقاومة الفلسطينية فعلت ذلك عن طريق الخطأ. بدوره؛ دمر النظام السوري المشافي، وصب آلاف البراميل المتفجرة على السوريين، وادعى أن الجماعات الإرهابية فعلت ذلك. الرئيس الأميركي بايدن غطى الفعلة الشنيعة اليوم (18/10) مدعيا أن “الجانب الآخر” هو من فعل، كذلك عمّى الرئيس الروسي بوتين الحقائق من قبل؛ وادعى أن الثوار السوريين قتلوا.. قصفوا.. دمروا أنفسهم.. أفلت بشار وحلفاؤه الروس والإيرانيون وكل الحثالة التي دخلت إلى سوريا من العقاب، كما سيفلت نتنياهو وعصبة المجرمين في “إسرائيل” من العقاب.. وليزداد المشهد سريالية؛ يعلو صوت الروس والإيرانيون تنديداً بالمجازر البشعة التي يرتكبها الجيش الإسرائيلي في غزة؛ لكنهم أنفسهم فعلوا ذلك وأفظع بالسوريين، وهاهو بشار الأسد نفسه يندد “بواحدة من أبشع المجازر بحق الإنسانية” في غزة، فيما يقصف بالوقت نفسه إدلب مسطراً أبشع المجازر بحق السوريين.

دمر النظام السوري المشافي وصب آلاف البراميل المتفجرة على السوريين وادعى أن الجماعات الإرهابية فعلت ذلك

لا يقتصر الأمر على ذلك؛ فرئيس أكبر دول ما كان يسمى بـ “الطوق”؛ وأحد أشد المنددين بالعدوان؛ هو نفسه أحرق الناس أحياء قبل عشر سنوات (آب/ أغسطس 2013) في ميدان رابعة العدوية، وقتل ثلاثة آلاف من رافضي “الانقلاب على الشرعية”، فضلا عن عشرات آلاف المعتقلين الذين يعانون في سجون بلدهم أوضاعاً أصعب من ظروف الأسرى الفلسطينيين في دولة الاحتلال. (دعا الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي – 18-10-2023 إلى نقل فلسطينيي غزة إلى صحراء النقب “ريثما تتمكن إسرائيل من القضاء على التنظيمات المسلحة”).

إقرا ايضاً: ما بعد «طوفان الأقصى»..3 سيناريوهات «أحلاها مر»!

هل يعطي هذا “الاستلهام” شرعية لـ “إسرائيل” كي تنتقم من الفلسطينيين بهذه الطريقة الوحشية؟ بالطبع لا. هل يمنع ذلك الواقع العربي المحزن؛ فصائل التحرر من استكمال نضالها من أجل الانعتاق من ربقة الاحتلال؟ بالتأكيد لا.

إذن ماذا يعني تقليب “المواجع” هذا؟ لا يعني غير التبصرة بالحقائق؛ فالقيم لا تتجزأ، وما هو عدوان في غزة لا يمكن أن يكون شبيهه أو ما هو أكثر منه؛ غير ذلك في سوريا، والتهجير والتطهير العرقي والإبادة وكل المصطلحات التي تطلق على أفعال الاحتلال في فلسطين -عن حق-، لا يمكن إلا أن تكون نفسها في كل بقعة تطالها الأفعال التي تشبهها في أي مكان في العالم.

هذه “التبصرة” ليست ملاحظة قيمية وحسب، وإنما حيطة من كل الذين تتقاطع مصالحهم في لحظة سياسية، فيعلنون غير ما يضمرون، ويصرحون بما لا يعتقدون. وهي حيطة ضرورية كي لا تهدد الأمة مشاريع لا تقل خطورة عن المشروع الصهيوني، تحت عنوان “العداء لإسرائيل” أو دعم المقاومة فيها، وكي لا تنخدع الجماهير بحكام يريدون غسل إجرامهم بحق شعوبهم من خلال إدانة إجرام “إسرائيل”.

على هذه الرقعة المعقدة؛ كم يبدو موقف المقاومة في فلسطين جدليا؛ هي التي تحمل عاتقها مشروع حماية مقدسات الأمة، وتحررَّ شعبٍ تآمر عليه العالم، كي تكون أرضه “المباركة” وطناً لأشتات شعب آخر. العالم الذي يرمز إليه نتنياهو اليوم بـ “الـمتحضر”؛ يعتبر مقاومة الاحتلال “إرهاباً” ويشبّه “حماس” بـ “داعش”، و”طوفان الأقصى” بـ “11 أيلول”. هذا “المتحضر” نفسه يحج اليوم إلى تل أبيب، للتضامن مع هذا الكيان “الذي لو لم يكن موجودا لأوجدناه”، وفقا للرئيس الأميركي بايدن (18/10/2023).

كم يبدو موقف المقاومة في فلسطين جدليا هي التي تحمل عاتقها مشروع حماية مقدسات الأمة وتحررَّ شعبٍ تآمر عليه العالم كي تكون أرضه “المباركة” وطناً لأشتات شعب آخر

في أتون هذا الواقع المرير؛ تضطر حماس وأشباهها للسير ما بين نقاط العدو و”الصديق”. تصافح “الشقيق” الذي لا يحبها، وتجتمع بـ “الحليف” الذي يريد أن يستغلها، وتستنجد بمن يندها بأسباب البقاء.. وتسعى في حشد أمة؛ هي الأدرى بحالها.

لأجل هذا سيبقى الصراع في فلسطين محورياً وطويل الأمد، لأنه انتصار على “قواعد الباطل” قبل أن يكون انتصاراً ماديا على عدو مدجج بالسلاح، وإصلاح لجسدٍ يحتاج النصر لاجتماعه كاملا، في مشروع تتعبأ ضمنه الطاقات، وتتكافأ فيه الدماء، ولا يرى فارقاً بين صهيوني عربي وصهيوني غير عربي، وبين مجرم مسلم ومجرم يهودي، .. وفي الطريق الطويل ستبقى تلك “الطائفة” التي تقاوم في فلسطين وغيرها، النبض الباقي في هذا الجسد المتهالك.. وهذه “الطائفة” بالذات مُحال اجتثاثها أو وقف تكاثرها؛ لأنها تعيش في “الضمير الصافي” لأمةٍ؛ كتب الزمان أنها تمرض ولا تموت.

السابق
ما بعد «طوفان الأقصى»..3 سيناريوهات «أحلاها مر»!
التالي
صواريخ جديدة من الجنوب..«القسام» تتبنى واسرائيل ترد بالمدفعية!