وجيه قانصو يكتب ل«جنوبية»: تصدعات في الديمقراطية الأمريكية

وجيه قانصو
يخص الدكتور وجيه قانصو «جنوبية» بمقال أسبوعي ينشر حصرياً على صفحات الموقع ومنصاته.

هنالك تنام لحالة عدم ثقة داخل الشعب الأمريكي بحكومته، بدت تظهر في حرب فيتنام، وتصاعدت مع فضيحة ووترغيت في السبعينيات، واستمرت وتيرتها خلال العقدين الاخيرين، ووصلت إلى ذروتها في عهد دونالد ترامب، صاحب القرارات المزاجية والتصريحات الاستفزازية.

وقد كان لحدث هجوم أنصار دونالد ترامب على العاصمة الأمريكية  واقتحامهم مجلس الشيوخ الأمريكي بطريقة عنيفة، في محاولة منهم لإلغاء نتائج الانتخابات الرئاسية الاخيرة، التي أعلنت لصالح بايدن والتي اعتبروها مزورة.  هذا الحدث أثار قلقاً ومخاوف  لدى الباحثين والمنظرين السياسيين، حول وصول النظام السياسي الأمريكي، إلى حالة ضعف في مؤسسات الدولة، وتصدع في العملية الديمقراطية نفسها، التي أثبتت قوانينها وأنظمتها جدواها وفعاليتها، لأكثر من قرنين في تاريخ الولايات المتحدة. 

اتساع الفجوة بين النظام السياسي والرأي العام فالأمريكي بحسب العديد من الاطلاعات فالأمريكي لم يعد يثق بقرارات نظامه السياسي

أولى مظاهر التصدع هو اتساع الفجوة، بين النظام السياسي والرأي العام، فالأمريكي بحسب العديد من الاطلاعات، لم يعد يثق بقرارات نظامه السياسي، في العديد من الأمور، مثل البيئة ومعالجة اللامساواة وتراخيص السلاح والديون والعجز المالي ومسائل الهجرة.

هذه الفجوة، أخذت تتجلى بوضوح حين تكرر مجيء رئيس بأصوات الأقلية لا الأكثرية، مثلما حدث في مجيء كل من جورج بوش عام 2000، ودونالد ترامب عام 2014. وذلك وفق النظام الانتخابي المعتمد في الولايات المتحدة، الذي لا يقوم على الأكثرية العددية، ولكن على مبدأ الهيئات الناخبة، الذي اعتمده المؤسسون الأوائل، للاحتفاظ بنوع من التوازن بين الولايات، ولحماية الأقلية من استبداد الأكثرية.  

هذا يعني أن الديمقراطية باتت مهددة، لأن أساس بقائها ونجاحها، هو أن يجسد المسؤولون توجهات غالبية الشعب، ومع صدور سياسات لا تحظى بموافقة أكثرية المواطنين، بخاصة في زمن ترامب، باتت الثقة بقرارات الحكومة تتضاءل، والشعور بأن الحكومة لا تمثل المواطنين تتعاظم لدى أكثر الأمريكيين، بخاصة في مسائل الهجرة والإجهاض والحد من حمل السلاح.

الديمقراطية باتت مهددة لأن أساس بقائها ونجاحها هو أن يجسد المسؤولون توجهات غالبية الشعب

ثاني مظاهر التصدع، هو التصادم بين مؤسسات الدولة، بخاصة صراع الرئاسة ومجلسي النواب والشيوخ. فالتناقض والتباعد بين الحزبين الجمهوري والديمقراطي، ومساحة الإجماع والتوافق بينهما أخذت تتضاءل، وباتت إمكانات التوافق والتسويات بينهما نادرة. بخاصة مع تبني كل حزب مواقف ذات طابع أيديولوجي، ويعتمد في سياساته على أسس راديكالية لا سياسية، أو من منطلق الصالح العام.

بالتالي اختفت الذهنية البراغماتية التي اشتهر بها العقل الامريكي، الذي يرى الأمور بنتائجها العملية لا بمقدماتها النظرية أو العقلية.   كل ذلك انعكس على أداء الدولة، وتحولت العلاقة بين الرئاسة ومجلس النواب من قاعدة Check and Balance، أي المراقبة والتوازن لغرض إشراك الأقلية، في صنع القرار ولمنع تضخم السلطة، إلى كيدية متبادلة بينه الرئاسة والمجلس النيابي، وصراع نفوذ وسلطة بينهما.

ثالث مظاهر التصدع، هو الاصطفاف الحاد بين مكونات المجتمع الأمريكي، حيث تقلصت القيم الجامعة وأخذت المواقف المتطرفة والراديكالية، تسود الخطاب والتعبئة السياسيين،  بين يمين راديكالي من جهة، مكون من مسيحية أصولية وعصبية العرق الأبيض، أخذ يتحكم بالحزب الجمهوري، ونقله من وضعية الحزب المحافظ إلى وضعية الحزب المتطرف والمعاند لأي تغيير، وبين ليبرالية أخذت تتراخى، في الكثير من القيم التأسيسة للمجتمع الأمريكي ولا تراعي خصوصيته.  فبتنا نشهد انقساما جغرفيا بين الولايات نفسها، وانقساما داخل كل ولاية بين: المدينة والريف، الغني والفقير، المحافظ المتشدد والليبرالي المتساهل.

مظاهر التصدع هو التصادم بين مؤسسات الدولة بخاصة صراع الرئاسة ومجلسي النواب والشيوخ

هذا الإنقسام حوَّل مظاهر التنوع والتعدد، على قاعدة قيم جامعة إلى اصطفاف عامودي بين مكونات عدة، فاقدة للمشتركات وقنوات التواصل بينها.  ما حال دون توليد رأي عام مشترك، أو تحقيق إجماع وتوافق على مسائل عدة وحساسة، وفي مقدمها الإجهاض وقضايا الجندر والأقليات والتمييز العنصري ومشكلات الهجرة.   وتحول الجدال من نقاش عمومي على قاعدة عقلانية، إلى سجال لا تخفى دوافعه الأيديولوجية ومبانيه اللاعقلية..

هذا الأمر جعل الحياة السياسية، تتخذ طابع الصراع والمواجهة، ودوافع كسر الخصم وتحطيمه، ولم يعد هنالك جمهور يتحدد موقفه من الناخبين، بحسب برنامجهم أو رؤيتهم أو كفائتهم. بل بتنا أمام كتلاً إجتماعية صلبة وجامدة لا مشترك بينها، وتقلصت النسبة غير المنحازة وخارج الاصطفافات، إلى أقل من عشرة بالمئة من مجموع المقترعين، التالي بات الهامش الشعبي الذي يقرر الفوز ضئيلا جداً، يكاد لا يتجاوز الخمسة بالمئة.   

رابع مظاهر هذه التصدعات، تشكيك المسؤولين الرسميين المستمر بصدقية مؤسسات الدولة.  ظهر هذا في حكم ترامب، حين شكك بنزاهة القضاء وكفاءة أجهزة التحقيق الفيدرالي FBI، ووصل هذا التشكيك إلى ذروته، في التشكيك بنتائج الانتخابات الرئاسية، بأن اتهم هيئاتها بالتزوير. هو امر تسبب بحصول أخطر مهددات الديمقراطية، فضلا عن تهديد للسلم الأهلي، وهو لجوء الناس إلى العنف في تثبيت أو تغيير أي مسار سياسي، مثلما حصل في هجوم أنصار دونالد ترامب على العاصمة الأمريكية، لمنع إقرار نتائج الانتخابات الرئاسية.  

هذه المعطيات مجتمعة، أثارت قلقاً، بل خوفاً، لدى المعنيين بسلامة الديمقراطية في الولايات المتحدة، ومرجعية الدولة الحصرية في إدارة الشأن العام. إلى درجة أن البروفسور هنري بريدي استاذ الفلسفة السياسية في جامعة كاليفورنيا، وصف الوضع الحالي بقوله: “أنا مرتعب…أعتقد أن وضعنا سيء جدا ولا أرى مخرجا لذلك”. هي وضعية ما تزال على حالها بل تتفاقم، ما يجعل الكثير من المراقبين يتوقعون، أن تكون معركة الرئاسة المقبلة حامية الوطيس، وعرضة لمزيد من الاصطفافات وتصاعد الخطابات الشعبوية وتحريك الغرائز والعصبيات، التي كانت نائمة في الوعي الأمريكي، ويتم استغلالها انتخابيا بطريقة حسابية لا أخلاقية. 

مظاهر هذه التصدعات تشكيك المسؤولين الرسميين المستمر بصدقية مؤسسات الدولة

هذا لا يعني أننا نشهد انهياراً للديمقراطية في الولايات المتحدة، بقدر ما تشير هذه المعطيات المستجدة، إلى أن متغيرات جذرية تراكمت في الولايات المتحدة، ولم يعد بالإمكان تجاهلها أو مجرد هضمها، بل تحتاج إلى أرضية جديدة لبناء الإجماع الوطني، وقواعد مختلفة للعملية السياسية، وابتكار آليات وقواعد انتخاب أكثر شفافية وقرباً من التمثيل الشعبي، وضرورة الخروج من الثنائية الحزبية التي تختزل منابر التعبير، وتضيق هامش التضامنات والتحالفات السياسية. 

باختصار، تحتاج الولايات المتحدة الأمريكية، إلى آباء مؤسسين جدد. 

السابق
بعدسة جنوبية.. تحية السلاح للملازم أول الطيار الشهيد ريشار صعب
التالي
لا جواب للمودعين… منصوري: رواتب القطاع العام بالدولار على هذا السعر!